الكتابة هي لعبة مع الموت... بين عشية وضحاها واذا بك تفاجأ بانك جالس بين اسنان التمساح وكل الذين كانوا يصفقون تواروا ساعة اندلاع المعركة... تنظر وراءك فلا ترى الا غبارهم. لهذا ينبغي للكاتب او الصحافي او لمن يعتمد اسلوب التصحيح ألا يعول كثيراً على رضا او سخط الجمهور أو الدولة، فالجمهور مثل السوائل الغازية تثور لحظة وتهدأ بعد دقائق... اليوم قد يحولك الجمهور إلى رجل قومي «سوبر ستار»، وغداً تختلف معه في توصيف حالة او مرحلة فيلقي على كتاباتك الحجارة وهكذا... تلك هي قصتنا مع صحيفة «الوسط». مر عامان على هذه الصحيفة واستطاعت ان تلقي كثيرا من الحجارة على المياه الراكدة... لكنا مازلنا نعجب كيف استطاعت ان تتجاوز كل المشانق التي نصبت لها في الطريق، والالغام الاتهامية هي اكثر من باقات الورد المرسلة إلى الصحيفة وعلى رغم ذلك تجاوزت المحن، واستطاعت ان تقول: انا موجودة... هي حقيقة، فالصديق لا يستطيع الا ان يقرأها ومن يكرهها لا يستطيع ان ينكر وجودها.
بالنسبة لي في الصحافة ككاتب لم اعول كثيرا فيما اكتب على دعم الصديق اللهم الا ما ندر. والغربة في الصحافة هي عامل قوة لمن يريد أن يدخل في المحرمات الرسمية وما يكرهه الرقيب. وقديما قال جمال عبدالناصر: «اللهم اني اعوذ بك من اصدقائي، اما اعدائي فانا كفيل بهم». ويقول المثل الصيني «الصديق عدو تحت التدريب». اليوم انت صديق الوزير وغداً يلقي عليك الحجارة لانك انتقدت وزارته... اليوم انت في العرف ضد مصالح الناس وفي اليوم ذاته تتحول إلى بطل قومي وهكذا... هذه الحالة طبقوها على «الوسط» وعلى كتابها وفريق عملها.
كما ان هولندا محكومة بالبحر واستراليا بالقمح وكوبا بقصب السكر وافريقيا بالنمور والزرافات. البعض يصف «الوسط» بانها صحيفة ذات مخالب وصاحبة شهية شرسة، وآخر قال انها رفعت السقف وجعلت بقية الصحف تلهث وراءها، والبعض اتهمها بتدليع الحكومة... ولكن الانسان المنصف لا شك سيتفهم اخطاءها وايجابياتها... اعتقد ان «الوسط» هي وسط في التعاطي مع القضايا.
المسئولون يحترمون هذه الصحيفة لانها تنتقد بانصاف، ولا تعبأ لا بالمشانق وبالالغام. كل صحافي في «الوسط» له عطره الخاص، بالامس كانت الصحافة البحرينية ببعض كتابها لا تتكلم الا في القضايا الهامشية بل راح بعضهم يعمد إلى ترسيخ عقيدة تخطئة الجمهور في كل شيء، وهناك من زرع صحافيين اجانب للنواحة وللنفخ في نار الفتن. هؤلاء اخذوا يبيضون كل صباح مقالاً يشتم هذه الفئة وبعد غد يتهم الفئة الأخرى... يلمعون شارب المسئول في اية فضيحة ثم يلقون الاوساخ على الناس. في مصر مثلا في حال العزاء يتم استجلاب واستئجار فرق عزاء للنواحة لخلق جو حزين في بيت العزاء وكذلك الامر في الصحافة. طبعاً الناس كانت تقول: «ليست النائحة الثكلى مثل المستأجرة» ولكن ماذا يفعل الناس اذا كان قدرهم ان يقرأوا هذه الكتابات؟ عندما جاءت «الوسط» رفعت السقف وراحت تخاطب الناس بموضوعية. تخاطب الناس الجالسين على ارصفة الحزن، تقدم لهم خبزاً، تزرع في اعينهم املاً، تزيل بعض القيح من قلوبهم... تخاطب هؤلاء الناس الجالسين على رفوف الكتب. علمتهم ان الثوب لا يصنع الراهب، وان هناك فرقاً كبيراً بين حلقات الذكر وحلقات النفط على حد تعبير أحد ادبائنا. كان القضاء البحريني خطا أحمر حاولت «الوسط» الدخول اليه... حاولت ان توصل للسلطة ان الناس ليسوا سيئين إذ لهم اخطاء وفيهم الكثير من الايجابيات، وان المؤامرة التي كانت تحاك لخلق الوشاية والوقيعة بين الناس والسلطة كان المتورط فيها هم المثقفون والكتاب وبعض الصحافيين.
عندما جاءت «الوسط» غيرت المعادلة... خلقت توازناً، إذ بدأ المجتمع البحريني يتنفس قليلاً فأصحبت «الوسط» الرئة التي يتنفس منها المواطن فهي القهوة التي يشربها كل صباح. يقول لورد كرينغتون: «امة من دون حكومة قوية تنزلق الى الفوضى، وحكومة قوية من دون صحافة حرة تنزلق إلى الفساد». وهكذا هي ميزة «الوسط» في عملها الدؤوب لدعم القضايا الوطنية بما يتناسب مع خدمة المجتمع... تحاول أن توصل صوت الناس الى المسئولين بلا رهبة، وتحاول ان توصل صوت المسئولين الى الناس بلا مساحيق. «الوسط» تتحرك وفق توازنات فيجب ألا يطلب منها المستحيل. قد يرد تقصير هنا أو خطأ هناك ولكن كي ننصف اية تجربة، اي مجتمع، اي شخص يجب ان نأخذ الايجابيات والسلبيات، فإن كانت الايجابيات اكثر يجب ان ننصف هذا الآخر.
حكمتي في الحياة اذكرها مرة ثانية... دعاء طاغور الشهير «يا رب ساعدني على ان اقول كلمة الحق في وجه الاقوياء، وساعدني على ألا اقول الباطل لأكسب تصفيق الضعفاء».
مهم جدا للانسان ألا يجامل في الحق... ومهم ألا يلهث وراء رضا الجمهور او سخطه وإلا اصبح كالعربة التي تقود الحصان... يجب على الانسان ان يمتلك شجاعة طرح رأيه
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 738 - الأحد 12 سبتمبر 2004م الموافق 27 رجب 1425هـ