مساء الخميس الماضي كان لي أن أعيش تجربتين مختلفتين من حيث الاتجاه والأجواء والآفاق، وإن جمعتهما لغة التاريخ والتغني بشهداء الوطن.
في ذلك المساء، حضرت الليلة الثانية من الاحتفال بافتتاح المقر الجديد لجمعية العمل الوطني الديمقراطي في منطقة «أم الحصم»، اختار له المنظمون أن يبدأ بعزفٍ موسيقي وأشعارٍ موقّعة تتغنى بخلاص الوطن والتحليق في آفاق الحرية، مستعيدةً ذكرى من سقطوا من أبناء هذا الوطن من أجل ولادة الإصلاح وكسر القيود ورفض المظالم الاجتماعية، ليعم الفرح والخير وتنطلق الحمامات البيض.
هناك دُعِيتُ للجلوس بين رئيس الجمعية عبدالرحمن النعيمي، وعبدالله مطيويع، الذي عرفته سجون أمن الدولة مقيماً طويلاً وراء قضبانها. دخلتْ بعض الصبايا يغنين للوطن، وعزف اثنان من الشبّان اليافعين ألحاناً حزينة، أخذت تتصاعد نغماتها حتى بلغت الذروة فأخذ بعض الحضور من الصفوف الخلفية يصفّقون ويردّدون بعض الأغنيات الوطنية من أيام النضال ضد الظلم أيام سطوة «أمن الدولة». مِلْتُ إلى اليمين وهمستُ بأذن مطيويع: «هل تذكّرك هذه الأجواء بأي شيء من أيام السجن؟» صمت الرجل قليلاً ثم قال متأوهاً: «بلى، تذكّرني بالكثير». لم أشأ أن أطيل أسئلتي في هذا الجو المكيّف، واحترمت صمته ليغرق في التأمل من جديد في أشعار الوطن، ولم يكن من المناسب نبش ذاكرته عن أيام العذاب في سجن القلعة الغربي، تلك الطامورة البائسة التي طحنت أجساد الكثيرين من أبناء هذا الوطن المخلصين، ولكنّها لم تتمكن من التهام حبّهم العارم للوطن.
في الفقرة قبل الأخيرة، عُرِضت مسرحية «القاضي وطباخه أبو الشمقمق»، مليئة بالرموز التي لا تحتاج إلى فكّ طلاسم لتعرف المقصود. قاضٍ منتفخ البطن ينزل على خشبة المسرح من إحدى حقب التاريخ الذي لايزال يحكم دنيا العرب بقوانينه الظالمة. أول ما ارتقى المسرح أخذ يمجّد ذاته القدسية، فملتُ على أُذُنِ النعيمي قائلاً: «يبدو أن كل كفاءته في بطنه»، فضحك. ولم يمهلني القاضي الشرِهُ كثيراً حتى أخذ يتكلّم عن فلسفته في الحياة، التي لم تكن تتجاوز احتساء النبيذ وأكل لحم الغزلان! حتى «حاجبته الحسناء» التي تشاركه الشرابَ والخطيئة والتزوير، لم تكن تدرك أسماء ما يشتهيه من أنواع لحوم الحيوانات والطيور!
ثقافة أكل الغزلان!
المسرحية لم تخلُ من إشاراتٍ دينيةٍ نقديةٍ، والتي قد لا يستحبّها أي متديّنٍ أو من له ميولٌ دينية، لكنها على العموم أفكارٌ تحملها شريحة من أبناء الوطن... ترى بأعينها كيف يُستغَلُ الدينُ في خدمة السياسة. فالقاضي يتلاعب بالأحكام باسم الدين والسماء، ويلوي عنق العدالة لصالح طبّاخه أبي الشمقمق، ويواجه المحتجّين على تلاعباته وتجاوزاته بقوله: «ومن أنت حتى تعترض على حكم الله؟»، فترتعد فرائص الخصم ويسحب الدعوى ويؤثر السلامة على قطع الرؤوس. وأخطر ما تطرحه المسرحية هو تسخير أقوال السماء في تبرير أخطاء أصحاب الجاه والسلطان، أو تمرير ثقافة «أكل الغزلان»!.
وللقاضي أشباهٌ ونظائر في هذه الأيام، ممن دخلوا حلبة السياسة في غفلةٍ من الزمان. فمن هذه الأرضية، تتكاثر هذه المشاريع المتدفقة علينا لفرض وصايةٍ ترفضها أخلاق وطبيعة هذا الشعب، كأنّهم لم يقرأوا صفحةً واحدةً من كتب التاريخ، ولم يستلهموا درساً واحداً من دروسه، ولم يروا ما آلت إليه تجارب الجيران! ولذلك ترى سياسيي «آخر الزمان» يتخبّطون يميناً وشمالاً، فمرةً يتداعون لتشكيل «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وتعيين كوادرها وإجراء «رواتبها»؛ ومرةً يدعون لإغلاق المتاجر لإجبار الناس على صلاة يوم الجمعة؛ ومرةً لتطبيق الشريعة، ولا أدري هل يدركون فعلاً خطورة هذه الدعوة؟ أم انهم يجهلون أن يد السارق تُقطع في الشريعة؟! وأن هناك روايتان في قطعها، من الرسغ أو من العضد؟ وهل سيبدأون بهذا البند أم سيؤجلونه حتى الانتهاء من معارك اللحية والنقاب؟!
مشاريع سترفع البلد وتنشر الرخاء في ربوعه! وحماسة في تقديم الاقتراحات التي لا تسمن من جوع، وشجاعةٌ لا تبرز إلاّ أيام الرخاء، وعقولٌ لم تأمر باكبر معروف ألا وهو العدل، ولم تنه عن أكبر منكر، أيام أخذ الناس بالظنة، وسجنهم بالتهمة، وقطع أرزاقهم وتشريدهم من بلادهم، لكنها تجيد اليوم انتقاء المشاريع «الإسلامية» كاختيار لحوم الضأن والغزلان... ألم أقل للنعيمي: «ان كفاءة القاضي في بطنه»؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 738 - الأحد 12 سبتمبر 2004م الموافق 27 رجب 1425هـ