في بكين تجد عالماً آخر لم تتعود عليه، وأناساً لم يتعودوا على رؤية أمثالنا... فنحن متشابهون لديهم ويصعب التفريق بين الواحد منا والآخر، ويبدو لنا أنهم أيضاً متشابهون يصعب التفريق بين الواحد منهم والآخر. ولكنهم أكثر الشعوب عدداً في عالمنا، فهم حالياً يصلون إلى 1,3 مليار نسمة على رغم أن التعداد الرسمي يتحدث عن 1,12 مليار... انهم ربع سكان العالم وطاقاتهم هائلة وحركتهم دؤوبة في كل اتجاه.
وليس أكثر مفارقة يشاهدها أمثالي سوى الأسواق الشعبية لإخواننا الصينيين. توجهنا إلى السوق الشعبية غير البعيدة عن «المدينة المحرمة» كثيراً، وهناك لديك خيارات كثيرة في كل شيء بما في ذلك مختلف أنواع الأكل... ولكن عليك أن تستعد قليلاً، فهناك عشرات المحلات التي تبيع مختلف أنواع اللحوم وغير اللحوم... عقارب حية تتحرك وجاهزة للطبخ، وما عليك إلا أن تأمر بعدد العقارب لكي يتم إعدادها لك. لا تهرب عن العقارب فلديك ما يشبه «الخنفساء» التي تم إخماد أنفاسها وهي أيضاً جاهزة لمن يود ابتلاعها. وإذا كنت مسلماً فهناك محل لبيع اللحم والشاورما الحلال، رآنا صاحب المحل، نصفه صيني الشكل والنصف الآخر باكستاني الشكل، ربما سببه زواج والده من والدته، لم أعرف أيّاً منهما الباكستاني وأيّاً منهما الصيني... سلم علينا ودعانا إلى دخول المحل، لكن المحلات المحيطة به لديها عقارب حية فخفنا أن تخرج تلك العقارب وتلاحقنا، ففضلنا عدم المجازفة واكتفينا بالحديث من خلال الإشارات مع بقية الصينيين الذين تميز جميعهم بالأخلاق العالية والابتسامة التي يوزعونها على الزائرين...
أسرعنا بالخروج من محلات العقارب وطلبنا إلى سائق سيارة الأجرة التوجه بنا إلى «المدينة المحرمة»... المدينة جميلة جداً وكانت مخصصة لملوك الصين وأبنائهم لمدة 6 قرون، وكان أبناء الشعب الصيني يسمعون عنها ولكن لا يستطيعون رؤية أي شيء من جمالها لأن جدرانها عالية جداً وأبوابها موصدة وتحيط بها الحماية الخاصة بالملوك من كل جانب. كل ذلك حتى جاء ماوتسي تونغ في العام 1948 وكسر الأقفال وفتح آلاف القاعات المزخرفة بالذهب والمحاطة بأجمل الحدائق والجداول المائية وكل ما لذ وطاب... ومن ذلك الحين لم تعد المدينة «محرمة» على الشعب الذي يستطيع زيارتها متى شاء ليرى كيف كان الملوك يشربون ويأكلون في أوان ذهبية وكيف كانوا يعيشون في خيرات «محرمة» على الشعب ومحللة لهم فقط...
لست ماوياً ولا أعتقد أن هناك أحداً في الصين يؤمن بأفكار ماوتسي تونغ كما كان يود «ماو» عندما أسس جمهورية الصين الشعبية، ولكن تشعر أن الصيني يفخر بأن أرضه ليست محرمة عليه بعد أن «حللها» ماوتسي تونغ.
تمنيت لو أن «ماو» حرم أكل «العقارب» بعد أن حلل دخول المدينة المحرمة، ولكن أمنياتي ليس لها أثر في بلاد عظيمة مثل الصين... ولكنني توجهت بأمنياتي إلى بلادي (البحرين) ودعوت الله ألا تكون لدينا مناطق محرمة على الشعب... فأي شيء جميل وفريد من نوعه في الوطن إنما هو ثروة وطنية يجب أن تكون لكل أبناء الوطن لكي يشعر المواطن بالعزة في وطنه... وشخصياً أسمع عن حدائق تشبه الجنة في بلادي، ولكن لم أرها ولم يرها الشعب، فلمَ لا تفتح هذه الجنان لكي يتمتع بها كل أبناء الوطن تماماً كما يتمتع أبناء الصين بزيارة المدينة المحرمة؟
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 737 - السبت 11 سبتمبر 2004م الموافق 26 رجب 1425هـ