ما سر هذا الالحاح على «الشفافية»؟ المفردة التي باتت تتردد على لسان الوزراء والنواب والناشطين السياسيين والكتاب وكل صاحب شكوى والجمهور كل يوم؟.
لقد باتت «الشفافية» رديفة الاعتصام في حياتنا اليومية منذ ثلاثة أعوام على الاقل. ما من مسئول يواجه أي مشكلة في وزارته إلاّ وأعلن ان الخطط والاجراءات لمواجهة هذه المشكلة أو المطالب سيتم الاعلان عنها بكل شفافية. وما من مطالبة لدينا سوى الشفافية في كل شيء.
وزير الاسكان والاشغال فهمي الجودر أعلن مراراً ان توزيع المساكن سيتم بكل شفافية وان عمل وزارته سيسير بكل شفافية وهو يخوض حملة في هذا الصدد وصلت في بعض فصولها الى المحاكم. وزيرة الصحة الدكتورة ندى حفاظ ما ان واجهت اضراب الممرضين والمسعفين إلاّ وأعلنت ان الحلول ستتم بكل شفافية. قبل الجودر وحفاظ، ظل وزير التربية والتعليم ماجد النعيمي يعلن مراراً ان وزارته ستلتزم بالشفافية في كل ما يمسّ عملها: التوظيف والبعثات وكل شيء. وزير الكهرباء والماء الشيخ عبدالله بن سلمان الذي ما انفك يؤكد على الشفافية في عمل وزارته، خرج الاسبوع الماضي بمقالٍ يعبّر عن ضيقه من الانتقادات التي توجّه لوزارته وما أسماه «تسييس الكهرباء».
وزراء غيرهم تحدّثوا عن «الشفافية» في وزاراتهم، لكنني أضرب أمثلة بهؤلاء الوزراء لأن وزاراتهم تتحمل مسئولية كبرى متصلة بنا نحن كمواطنين: التعليم، الصحة، المسكن اللائق والبنية الاساسية من طرق ومرافق والكهرباء والماء.
في غمرة هذا الالحاح على الشفافية، لم نسمع مسئولاً يتحدث عن «الكفاءة»، ولم نلمس أيضاً أي مؤشر عملي للسير نحو الكفاءة في وزارات يفترض انها وزارات فنية بالدرجة الاولى. أو بمعنى آخر وزارات لا يقوم عملها إلاّ على الابداع والكفاءة العلمية والتخطيط العلمي. والنجاح هنا سيقاس دوماً بمستوى الخدمة التي تقدمها هذه الوزارات. ومثلما ان «التوربين لا يعرف مذهب المهندس الذي يتعامل معه»، فان طوابير المرضى والحالات المرضية المستعصية لن يهمها ما اذا كان الطبيب سنياً ام شيعياً ام بوذياً او حتى من عبدة الطبيعة. المرضى يحتاجون للطبيب الماهر والتشخيص الدقيق والسرعة في تقديم الخدمة الصحية لا الانتظار شهوراً من أجل عملية جراحية. والحال اننا لن نهتم أيضاً بمذهب المدرس ودينه طالما انه يقدم لابنائنا المعرفة العلمية وينمّي فيهم بمناهج متطورة التفكير العقلاني والعلمي السليم وكل القدرات الذهنية التي يحتاجها الطلاب: المهارة، الدقة، إدارة الوقت، خاصية البحث والتقصي والتركيز والقدرة على التفكير المنطقي.
واذا كانت مهمة النواب تقتضي التأكيد والبحث والمطالبة بالشفافية وترسيخها في عمل الحكومة وعلاقتها بمواطنيها، فإن الحاحهم على الشفافية يحمل المعنى نفسه، تناسي الكفاءة لأن الالحاح على الشفافية لدى الكثير منهم لا يتصاعد إلاّ في المواضع المتعلقة بالاعداد: في التوظيف وتوزيع البعثات والمساكن. وكذلك لدى الكتاب والجمهور وفي المنتديات. يمكن فهم هذا الالحاح في حدود فهمنا لمشكلة أخرى هي التمييز في الوظائف، لكن من الواضح أن الالحاح على الشفافية تحت ضغط هاجس التمييز - كفعل وردّ فعل - يجعلنا غير قادرين على وضع المشكلة والحلّ في إطارها الصحيح ويقودنا إلى مكانٍ آخر.
الشفافية ستظل مطلبنا جميعاً كأسلوبٍ لمواجهة كل مشكلاتنا، لكن الشفافية وحدها من دون الكفاءة ستصبح بلا معنى، بل من الممكن ان تقودنا الى الاسوأ طالما اننا نتعامل معها كغاية وليست وسيلة. وسيلة من بين وسائل عدة: المحاسبة والتدقيق والمصارحات، فهل يمكن أن نقول اننا نريد الشفافية فقط بغض النظر عن الكفاءة؟
هذا السؤال ليس مجانياً طالما ان الشفافية اليوم أصبحت تقاس بمقياس وحيد: كم من السنة وكم من الشيعة؟ يتحدث المسئولون عن الشفافية استجابةً لإلحاح النواب والناشطين والتيارات السياسية والجمهور في أجواء جديدة على الجميع. والاخطر في هذا كله، ان المسئولين يغرقون في حديث الشفافية بعيداً عن الكفاءة. والجمهور يتحدث عن الشفافية بمقياس كمّي فحسب، أعداد يتم التدقيق فيها بحثاً عن الاسماء والمناطق بطريقة أقرب إلى ان تكون: «فلتذهب الكفاءة الى الجحيم». وبعد حين سنشكو من تدنّي خدمات هذا المرفق وهذه الوزارة لأننا نسينا في غمرة الالحاح واللهفة اننا استبدلنا الغاية بالوسيلة
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 736 - الجمعة 10 سبتمبر 2004م الموافق 25 رجب 1425هـ