تعلمنا منذ الصغر في لبنان أن نهتف ونغني للوطن، وفي المواسم الانتخابية كانت الهتافات تعدد صفات المرشح او الزعيم الذي يهتف له المؤيدون، و«بالروح،،، بالدم» اللبنانية لم تكن في يوم من الايام للاشخاص، بل كانت دائماً للأرض والوطن والراية. ونتيجة ذلك تشكلت في الذهن اللبناني صورة الفداء للوطن لأن الاشخاص، ومهما علت مراتبهم ليسوا اكثر من موظفين عند الشعب يؤدون واجبهم ويمضون الى بيوتهم ويعودون الى شئونهم اليومية، ويصبحون نوابا ووزراء ورؤساء سابقين. ولذلك تجد في لبنان احياناً ثلاثة رؤساء جمهورية سابقين، ونصف درزينة من رؤساء الحكومة واكثر من درزينتين من الوزراء السابقين، وقائمة طويلة من النواب السابقين، اضافة الى موظفي الفئة الاولى السابقين، وجميعهم لا يقلقهم تاريخهم الوظيفي، فيذهبون الى المطاعم والمناسبات العامة والخاصة بكل حرية، ويدلون برأيهم في القضايا المطروحة على بساط البحث بلا أي وجل أو خوف، حتى اثناء جنون الدم والدمار بين عامي 1975 و1991 كان بإمكان كل هؤلاء أن يعيشوا حياتهم من دون أية منغصات جدية، فقط بعض «الزكزكة» من بعض افرقاء القتال على الزواريب.
ولذلك كانت القصائد والاغاني والاناشيد للوطن، حتى المقاومون الذي استشهدوا في سبيل تحرير الأرض كانوا يمرون كغيرهم في الذاكرة الثقافية اللبنانية، لا ميزة لهم اكثر من انهم سبقوا غيرهم الى الاستشهاد في سبيل الوطن، ولذلك كم كان مخجلاً لكل الشعراء وتواريخهم وقصائدهم عندما تحول رمز الجمهورية «قصر بعبدا» في العام 1989 الى مكان تجمع لتمجيد الشخص بـ «الهتاف» له.
كانت تلك اللحظة تمثل انتكاسة للثقافة اللبنانية منذ فجر التاريخ ولغاية اللحظة التي جعل فيها قائد الجيش الذي احتل القصر الجمهوري تحت ذريعة الحكومة العسكرية التي اوكل لها امين الجميل سلطاته عند نهاية ولايته، نقول عندما جعل هذا القائد من الناس درعاً بشرية يحتمي بها بعد أن سد بنفسه كل السبل في الوصول الى رئاسة الجمهورية عبر الانتخاب.
كانت في تلك اللحظة مقولة «بالروح بالدم نفديك يا جنرال» تمثل صفعة للبنان كله، من أقصى الشمال حتى اقصى الجنوب. فلبنان الغارق في بحر الدم المتعدد، لم يكن في تلك اللحظة يحتاج إلى اكثر من حملة انقاذ حقيقية ليعود الوطن الذي تغنى به الشعراء ايام السلم وجعله بعضهم «قطعة سما على الارض»، وليس ملعباً للجنرال يمارس فيه مزاجيته. يومها كانت وجبات القصف العشوائي تحرق ما تبقى من اخضر لبنان وتقتل العباد في كل المناطق اللبنانية، وكانت تختلط دماء المسلمين والمسيحيين من دون تمييز جراء جنون راجمات الصواريخ. كانت كل القوى تفدي لبنانها بحسب ما تراه ولم تفد شخصاً بعينه، ولذلك عندما سقط المتحصن بالدروع البشرية ولجأ الى السفارة الفرنسية لم نشاهد من يفديه بدمه او بروحه، تحول الى واحد من الزعماء العاديين جداً في بلد يكثر فيه الزعماء الى درجة تخال فيها أن كل مختار محلة زعيماً، وفي الوقت ذاته تجد فيه الزعماء يتوسلون تأييد الناس لهم من خلال الشعارات الوطنية وليس لأنهم يتمتعون بالقدرة على جعل الناس يهتفون فداء لهم.
مشهد الهتاف «بالروح ... بالدم» تكرّر قبل أيام في قصر بعبدا، في تلك اللحظة غاب لبنان وحضر الشخص، غاب الوطن الذي كلل مسيرة كفاح بتحرير حقيقي للارض التي احتلت من قبل عدو لايزال يطمع في هذا البلد الصغير الذي يشكل التعايش فيه اكبر تهديد لكيان يقوم على قصر نظر العين الواحدة، لبنان بلد الوطن الحقيقي يناقض «اسرائيل»، الكيان المصطنع غير المستقر حتى هذه اللحظة، في تلك اللحظة التي صدحت فيه الحناجر هاتفة «بالدم... بالروح نفديك يالحود» كانت تعيد الى الاذهان صورة لم تجد في الذاكرة مكاناً لها فبهتت ألوانها مع مرور الايام.
عندما صدحت الحناجر بذلك الهتاف تراجع عنفوان الرئيس المقاوم الرمز، واصبحت المقاومة ومشروع التحرير في المرتبة الثانية، وسقطت كل القصائد والاغاني والاناشيد الوطنية، فالرئيس الذي اعتاده اللبنانيون يسير في الشارع بلا مواكبة وبلا أية «همروجة»، يباغت الناس في المؤسسات العامة متفقداً أحوال سير الادارة، القريب من الناس، لا يمكن له أن يتحصن بدروع بشرية في زمن باتت فيه الحرب من المخلفات، وذهب القلق الامني الى غير رجعة، في زمن يستطيع أن ينال فيه 96 صوتاً مؤيداً لتمديد الولاية (نصف ولاية اخرى) من دون أن تشتعل الجبهات.
إن الذاكرة الثقافية اللبنانية لا تقبل هذا النوع من الهتاف للاشخاص لأن هؤلاء الاشخاص هم من جعلهم الدستور يسهرون على وحدة الوطن والشعب، ولأنهم يجب أن يكونوا فوق كل الاعتبارات الشخصية عندما يمارسون واجباتهم الوظيفية.
في لبنان لا مكان لـ «بالدم... بالروح نفديك» يا فلان، لأن الفداء للوطن وحده، فهل دخل لبنان عهد ثقافة فداء الاشخاص التي سادت في العالم العربي في وقت كانت الغالبية الساحقة من الشعوب العربية تحسد اللبناني لأنه لا يحتاج إلى الهتاف بفداء الشخص؟
التمديد لرئيس الجمهورية مسألة لا تحتاج الى ان يتراجع لبنان عن تقدمه، هذا ما لا يرضاه رئيسه الذي اختار أصعب الخيارات من اجل الوطن، ولا يحتاج الى تحويل القصر الجمهوري الى مسرح للاحتفال على هذا النحو.
لاشك في أن الرئيس اميل لحود يمثل رمزاً وطنياً نحتاجه كلبنانيين في هذه المرحلة، ويقف الكثير من اللبنانيين معه، لكن كل لبنان لا يحتاج إلى من يذكره بمشهد الدروع البشرية في قصر بعبدا العامين 1989 و1990. فالرئيس الحالي خلع البزة العسكرية منذ ست سنوات، ولذلك يحتاج لبنان الى اميل لحود المدني الرئيس القادر دائماً على ممارسة دوره بكل اتقان وقدرات قلما وجدت عند غيره.
رئيس القسم الثقافي بصحيفة «الرأي العام» الكويتية
العدد 735 - الخميس 09 سبتمبر 2004م الموافق 24 رجب 1425هـ