العدد 735 - الخميس 09 سبتمبر 2004م الموافق 24 رجب 1425هـ

المصالح المرسلة قبل قوانين الردع

الشريعة الإسلامية:

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

اقترحت جماعة سياسية (نيابية) الأسبوع الماضي تشكيل لجنة عليا لتطبيق الشريعة الإسلامية في البحرين. وبررت الكتلة النيابية (الأصالة) طلبها هذا بالحاجة. فالظروف كما تقول الجماعة السياسية فرضت تهيئة الناس لمثل هذا الهدف. وربطت تفسيرها للحاجة بكثرة الجرائم والسرقات والتعدي على الحقوق. وبدورها رأت أن مثل هذا الانفلات يعود سببه إلى عدم كفاية الردع القانوني «الوضعي» للحد من ارتفاع نسبة الجريمة. فالشريعة الإسلامية برأي الجماعة السياسية - النيابية المذكورة وغيرها من جمعيات هي مجرد قوانين للردع، بينما يرى البعض أن أصل التشريع الإسلامي هو التسامح والعدل واحترام التعدد والقبول بالآخر في إطار التدافع الحضاري والتعامل بالحسنى.

إن قراءة الشريعة في إطار ضيق وربطها بقوانين محددة للردع والتخويف هي قراءة خاطئة لأنها لا تأخذ الإسلام في وحدته الكلية التي لا تعزل السبب عن المسبب والعلة عن المعلول. فالجريمة لا تردع بالقانون فقط بل يجب محاربتها بمنع مسبباتها. والانفلات الأمني لا يعني مصادرة الحرية وإنما يتطلب تحقيق العدل والعدالة الاجتماعية. وهذه كلها مسببات فإذا عولجت قلت كثيراً الدوافع أو الأسباب التي تشجع على نمو السلبيات.

هذا جانب من المسألة. أما الجوانب الأخرى فلها صلة بظلال القرآن الكريم كما ذهب سيد قطب إلى القول. وهذه الظلال لا تقتصر على القمع والمطاردة والملاحقة الاجتماعية ومحاصرة الأفراد والتضييق عليهم وإنما تمتد لتشمل مختلف نواحي الحياة من حرية وكرامة واحترام حقوق الإنسان. فالشريعة أساساً هي نظام متكامل يعتمد على توفير مناخ العدل والتسامح الذي لا يتأتى من فراغ بل يتطور ضمن سياق منهجي لا يعزل السبب عن المسببات والعلة عن المعلول. فالشريعة لها وظائف متعددة ولا يمكن أخذ ناحية منها (الردع) وإهمال النواحي الأخرى التي هي شرط نجاح الإنسان واستقراره وتوازنه المادي والنفسي.

هذا الموضوع ناقشه كثيراً العلماء والفقهاء والأئمة والقضاة وتوصلوا بعد سجالات كثيرة إلى الربط ما بين المصالح المرسلة (الوقائع الجارية) والظروف الزمنية والتفسير المحدد في حالات مختلفة للمبدأ نفسه. فالإمام الغزالي مثلاً أكد نقلاً عن الإمام الشافعي أن المجتهد يجب عليه ملاحظة «القواعد الكلية أولاً ويقدمها على الجزئيات». والإمام الشاطبي في كتابه «الموافقات» أكد أهمية المقاصد أو قصد الشارع من تطبيق الشريعة. فالسؤال عن المقاصد الشرعية مهم وهو لا يقل أهمية عن قواعد الاجتهاد التقليدية التي تعتمد الاستنباط بناء على الكتاب والسُّنة والقياس. فالصحابة وأصحاب الصحابة من بعدهم أدركوا باكراً أهمية وضع قواعد لضبط الأحكام الصادرة عن الشرع. وأطلق لاحقاَ على هذه القواعد «أصول الفقه» فاعتمدوا أولاً على قاعدتين: علم لسان العرب وعلم أسرار الشريعة ومقاصدها. ومن القاعدتين تطور الاستنباط من قواعد اللغة إلى تصور الأحكام وأخيراً إلى وضع مقدمات في علم الكلام.

ووفق هذه الأصول العامة وردت عند الفقهاء إشارات في القياس قسمت العلة إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات. وسبب التقسيم يعود إلى خوف الفقهاء من خلط درجات القياس ووضع واحدة قبل الأخرى حتى لا ترتكب الأخطاء باسم الشريعة أو يردع الناس باسم مكافحة الجريمة في وقت لا يطبق منها سوى الجانب العقابي بينما تترك الجوانب الأخرى التي هي الشرط الأساسي لمنع وقوع الجريمة وبالتالي ردعها.

ربط الشريعة الإسلامية بالعقاب والردع وإهمال الجوانب الأخرى يحط كثيراً من قيمها ووظائفها (ظلالها) التي تتناول وتطال الكثير من شئون الحياة والإنسان. وهذا الربط الذي يقصر الشريعة على القمع والملاحقة والمراقبة يعطي فكرة سلبية عن نظام حياة متكامل لم يفرط بناحية واحدة إلا وتطرق إليها. فكل جريمة مشروطة بسببها وهي فقدان العدل. وحين يتوافر العدل تقل الجريمة، وتتكاثر الجريمة إذا تقلص العدل.

إذاً هناك علة ومعلول، واشتغل الفقهاء والعلماء والقضاة والأئمة كثيراً على بحث أنواعها، فوجدوا مثلاً أن أنواع العلة 32 صنفاً. كذلك قسموا العلل إلى طبقات فوجدوا أن هناك 14 نوعاً من طبقات العلل.

هذه البحوث في تفصيلات العلة جاءت رداً على الحاجة، وهي حاجة القضاة إلى التمييز بين عمل وآخر وفعل معين (جريمة أو سرقة مثلاً) ومبررات الفعل ودوافعه حتى يكون حكم المجتهد أو القاضي في موضعه. فالأصل في الشريعة هو التسامح واحترام الإنسان وتوفير الحياة الكريمة له ولأسرته وتحقيق العدل والتوزيع العادل للثروة وهي كلها شروط (علل) ضرورية للحد من الردع والتخفيف من العقاب.

بحث الفقهاء والعلماء قديماً في الأسباب (العلل) وأنواعها لمعرفة مصدر الأشياء ومسبباتها ودوافعها حتى لا يظلموا الناس باسم الشريعة. فالشريعة ليست للردع أو القمع والملاحقة والمراقبة، فهذه مجرد فروع مربوطة بالأصل، والأصل هو «اليسر وليس العسر».

الدعوة إلى تطبيق الشريعة مسألة ليست جديدة فهي تعود إلى عشرينات القرن الماضي حين انقلب نظام الاتحاد والترقي في تركيا على السلطنة العثمانية فألغى الخلافة (المركزية) وعطّل قوانين الشريعة (الدستور)، فتفرقت الأمة وتوزعت أشلاء متنافرة لا توحدها سوى العقيدة العامة (الكتاب) التي تبحث عن دولة (هيئة) مشتركة. وبسبب الانقطاع الزمني بين قوانين الشريعة وتطبيقاتها تراجع الاجتهاد في النص، وتحولت المبادئ إلى نوع من الأخلاق الاجتماعية وتقاليد اجتماعية، بينما الدين هو مسألة أوسع بكثير من تلك الوظائف الردعية (العقابية) التي يطالب بها البعض. فالواقع يضغط فعلاً باتجاه إعادة تفسير النص ليتناسب مع المصالح المرسلة وهي مصالح كثيرة ومتضاربة تتطلب الكثير من الوعي (الرؤية) للإحاطة بكل تلك التطورات والتداعيات والتحولات التي أصابت الأمة وضربتها منذ مطلع القرن الماضي إلى حاضرنا.

المطالبة بتطبيق الشريعة حق شرعي ومن واجبات كل مسلم يدرك معنى الانفكاك الذي حصل بين التدين والقوانين، إلا أن تلك المطالبة تحتاج أولاً إلى مراجعة شاملة لتاريخ ما حصل أو وقع من حوادث خلال القرن الماضي. وتحتاج ثانياً إلى تأويل معاصر يعتمد على نتاجات الماضي ولا يقطع معه ولكنه في الآن يجب أن ينفتح على العصر حتى يكون الاجتهاد ليس بعيداً عن حاجات الزمن. فالاجتهاد المعاصر هو الجواب الواقعي الذي يجب أن يسبق كل المطالب الجزئية التي تنظر إلى أن الشريعة وكأنها من أدوات القمع والردع والعقاب ومنح وجه عبوس لها، بينما أصلها هو احترام الإنسان وتعزيز كرامته ورفع مستواه حتى يترفع عن الجريمة والسرقة والفساد والإفساد

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 735 - الخميس 09 سبتمبر 2004م الموافق 24 رجب 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً