العدد 735 - الخميس 09 سبتمبر 2004م الموافق 24 رجب 1425هـ

منهج التأصيل النظري في فكر الإمام الصدر (1 - 5)

عبدالجبار الرفاعي comments [at] alwasatnews,.com

مفكر اسلامي عراقي

تمور في الساحة الاسلامية مجموعة فعاليات ثقافية واعلامية، تتوزع اقاليم ومدناً عدة في العالم الاسلامي وغيره تمارسها حركات ونواد وجمعيات ومؤسسات ومساجد وصحف ودوريات كثيرة، ويشارك في أنشطتها الكثير من الدعاة والخطباء والكتاب والاعلاميين، تتباين عطاءاتهم بين الخطاب السجالي التعبوي، وبين بيان المفاهيم والمقالات الأولية في الفكر الاسلامي، لكن خطاب الجميع يتسم بالتعميم تارة، فيما يتسم بالالتباس والابهام والتداخل تارة اخرى، ولا يجري فرز وتصنيف، أو تحليل وتقويم للاشكالات والتحديات الراهنة التي تواجهها الدولة الاسلامية والمجتمعات الاسلامية الحاضرة، ومن ثم تقريب واستكشاف مواقف العقيدة والشريعة منها.

فمثلا نجد هذا المقال يتناول الاختراق الثقافي، وذاك الخطيب يشدد على مخاطر المواجهة الحضارية بين الاسلام والغرب واشكالية العلاقة بالآخر، ومن دون تحسس فيما يطرحه أي واحد منهما محاولة فكرة جادة ودقيقة لتجاوز الشعارات بالصيحات التحريضية، باتجاه قراءة الواقع، واستنطاقه بقراءة منهجية تلم بأدوات ووسائل التحليل والبحث العلمي، لتغور في الأعماق وتكتشف سنن التغيير والمداولة والصراع، وتعدد لنا ما ينبغي استدعاؤه من التراث، وما ينبغي التأكيد عليه واستيعابه وهضمه وتمثله من الموروث المعرفي الاسلامي، كزاد لا غنى عنه في هذه الفترة من تاريخنا، لأن هذا الموروث هو الذي تقومت به هوية الأمة، وتشكلت طبقاً له شخصيتها الحضارية، وارتسم في ضوئه مسارها التاريخي، وتجلت من خلال الوعي بمعالمه وتفاصيله ذاكرتها ازاء ماضيها وتاريخها.

فالوعي بالحاضر يتأسس على الالمام بالماضي أولا، لأن الماضي هو الذي يكّون الحاضر، وبالتالي يوجه حركة المجتمع نحو المستقبل، ولا يصح ابداً لمن أراد أن يتعرف على حاضره بصورة واضحة أن يتجاوز الماضي، فالحاضر ليس الا سجلات الانسان من ابداعات وتجليات وتنويعات لمعارف وتراث ماض! تتفاعل ايجابياً مع ما تفرزه وتطرحه الأيام! من اسئلة واستفهامات متجددة.

وعلى هذا فلن يتحقق الوعي الايجابي الفاعل بالحاضر الا عبر استدعاء ما يختزنه الماضي من قيم ومقولات ومنظومات المعارف والافكار.

بيد ان التعامل مع الماضي واستيحاء عناصره الحية لا يستطيع عليه كل احد، فكما يختزن التراث مقومات قوة الامة المسلمة وكمالها، تتكدس فيه عناصر قاتلة فضلا عن أن العناصر الميتة، استنزفت طاقات العقل المسلم قروناً عدة.

فبينما كان الانسان الاوروبي يؤسس لنهضته الحديثة، ويجدد بناء منظومته المعرفية ويوجه عقله نحو اكتشاف الطبيعة وسبر اغوارها، كان العقل المسلم يستنزف في مشاغل ثانوية، حتى بلغ التشتت والتضييع في تلك الفترة حداً مزرياً، فقد تجاوزت شروح بعض المتون الادبية وغيرها العشرات، واستغرق بعض الباحثين في مسائل غريبة، فمثلا ألّف احدهم «رسالة في نوم الملائكة»، وألّف آخر «رسالة في زواج الجن»، وألّف ثالث ورابع.. الخ، مؤلفات في قضايا ومشكلات موهومة، بينما غيبت المشكلات المصيرية وانقطع هذا العقل عن المستقبل، في الوقت الذي كان فيه الانسان الغربي على الشاطئ الآخر من «المتوسط» منهمكاً في التخلص من الافكار الميتة والقاتلة، فقد كان الجدل يحتدم على مسائل هامشية مثل: «ما هو عدد الملائكة التي يمكن أن يحل في رأس ابرة؟»، لدى «الفلسفة المدرسية» في اوروبا في العصور الوسطى، ولولا تجاوز العقل الاوروبي لهذه الافكار لما استطاع ابداً ان يتجه إلى الابداع والابتكار ويحقق المكاسب الكبرى في تطوره التقني.

من هنا لابد من الفرز والتمييز على بصيرة بين ما لابد من استمرار حضوره وبقائه من الماضي، وما لابد من تجاوزه والتعامل معه باعتباره نتاج عصر معين هو زبد ذلك العصر.

إن افرازات وشطحات عصر التداعي العقلي والانحطاط الفكري الذي عاشته بعض اجيال المسلمين، فترك بصماته على انتاجهم الفكري آنذاك، يعتبر تجاوزها المقوّم الآخر لبناء نهضتنا الحاضرة، فكما تتقوم هويتنا بالتواصل مع معطيات وابداعات العقل المسلم بالامس من جهة، كذلك يكون لزاماً علينا تجاوز ما كبّل هذا العقل في بعض الفترات.

ولعل من أبرز الاشكاليات التي ترتهن الخطاب الاسلامي المعاصر، هي حال التكرار والاجترار التي لم يتغلب عليها، فأضحى أفضل ما يقال او يكتب، ما هو الا شرح وتلخيص وترديد لمقولات وافكار اطلقها مفكرون في عصور سالفة، لكن المتأخرين لم يراكموا هذه المقولات، ولم يعملوا على تعزيز وتأصيل مقولات ونظريات تستجيب للتحديات والاستفهامات المتجددة، وانما استغرقوا في الشروح والحواشي على المتون والنصوص الموروثة من السلف، فتراجع دور العقل بعد أن نشطت فعالية الذاكرة، وكأن ذاكرتهم ارتدت القهقهرى نحو عصور الركود والانحطاط، يوم تعطلت فعالية العقل وتعطلت روح الابداع، وتمحورت كل الجهود حول الحواشي والتعليقات، فتهمش الدور الاساسي للعقل في التنظير والتأسيس والاكتشاف، في اطار التواصل مع السلف.

ويبدو أن السبب الرئيس لهذه الحال، هو انخفاض القدرة على التمثل، فما لم يتم تمثل واستيعاب معارف السلف واسهاماتهم، لا يمكن الاستمرار في العطاء، اذ ليس هناك من يبدأ من الصفر في التاريخ، فكل عطاءات الانسان هي ما يأتلف من تراكمات التجربة البشرية منذ بداية ظهور المجتمع على الارض.

وتتفاوت اسهامات الأجيال في اغناء التجربة والمشاركة الخلاقة في تطوير حركة التاريخ، ينجم عن اختلافهم في وعي وتمثل ما راكمته الاجيال السابقة من خبرات ومعارف.

وما يحدث من انكسارات وتراجعات في مسار تجارب البناء لدى المجتمعات، ينشأ في الاعم الاغلب من انهيار الذاكرة التاريخية، وفقدان الوعي، ونسيان كل معطيات وتجارب الانسان منذ فجر التاريخ، فيفضي المجتمع الى مستقبل من دون ماض او حاضر لا ماضي له، لأنه لم يعد قادراً على اختزان الافكار وتركيبها، ويظل يكرر ذاته ولا يتقدم خطوة واحدة الى الامام، ويفقد القدرة على تأسيس اي موقف اصيل، بفعل ما تعرض له من اعاقة وتفريغ حضاري.

بيد أن ما يزحزح حال الركود ويعمل على تحرير وعي الامة وقدراتها المختزنة هو صيحات المجددين ممن يطلقون خطاباً يحطم السكون المهيمن على حياة الامة، فينطلق تيار من المقولات والافكار تستلهم التراث وتستجيب لتحديات الحاضر.

وقد استطاع بعض المفكرين المسلمين في هذا العصر أن ينجز اعمالا، ويبتكر نظريات، ويؤصل مقولات منهجية، تتجاوز الفضاء المحدود الذي يتحرك فيه الخطاب الاسلامي المعاصر، ويمكن اعتبار فكر المفكر الاسلامي مالك بن نبي، وفكر الامام الشهيد محمد باقر الصدر من ابرز نماذج الفكر التجديدي في هذا العصر

إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"

العدد 735 - الخميس 09 سبتمبر 2004م الموافق 24 رجب 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً