فوضى المعلومات التي اندلعت فجأة في الصحف والوكالات والفضائيات بشأن اعتقال (أو عدم اعتقال) عزة إبراهيم الدوري كشفت بوضوح عن وجود خلل بنيوي في حكومة إياد علاوي. فالفوضى فضحت من جديد ذاك التمزق الداخلي بين الوزراء. فكل وزير أطلق تصريحات مخالفة للآخر، وأخذ كل مسئول (أو غير مسئول) في طرح معلومات تنافي معلومات زميله، إلى أن تبلورت الصورة بعد مضي 48 ساعة.
فوضى المعلومات تعكس وجود عدم تنسيق بين زملاء وزارة واحدة وربما تكشف عن وجود صراع خفي أو على الأقل منافسة محمومة للظهور أمام الكاميرا واختراع أنباء ومواقف. فهذا يصرح ضد إيران وذاك ينفي وجود خلافات. وهذا يبلغ عن وجود وثائق تدين طهران وتشير إلى ضلوعها في حوادث وآخر ينفي وجود مثل هذه الشبهات. وكذلك تكرر التضارب في المعلومات بشأن سورية والأردن وأحياناً السعودية. حتى المواقف ذات الصلة بقوات الاحتلال (التحالف أو المتعددة الجنسية) تظهر تباينات لا تشير إلى وجود تنسيق أو استراتيجية موحدة. فكل وزير يعكس رأي حزبه أو فريقه أو منطقته أو طائفته. فمثلاً رئيس الحكومة يصر على أن يسمي مدينة الصدر بمدينة «الثورة» كما كان أمرها في زمن الدكتاتور، ويرفض تغيير المسمى إلى الصدر. وهناك وزراء يطلقون عليها اسم الصدر. وهناك من يلصق بالسيد مقتدى الصدر بعض الألفاظ والنعوت التي تتهمه بالإرهاب والخروج على القانون، وهناك من يتعاطى معه باحترام ويرى أن حركته ظاهرة عفوية ومفهومة ويمكن التفاهم معها أو على الأقل احتواء الجانب الفوضوي منها.
وعلى هذا القياس المتناقض يمكن أن نقرأ الكثير من المواقف المتعارضة حتى في الشئون الاستراتيجية التي تمس أمن المنطقة وتوازنها واستقرارها. فهناك وزراء يتخذون مواقف سلبية من دول الجوار أو جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهناك وزراء أقل تشنجاً. كذلك يمكن سحب التعارضات نفسها على قضية مركزية كقضية فلسطين والاعتراف بـ «إسرائيل» وتبادل العلاقات التجارية والدبلوماسية معها. فكل وزير يعزف على وتر مستقل، فتظهر فرقة علاوي للعزف شاذة في موسيقاها. فقائد الفرقة (أو المايسترو) كما يظهر من الحوادث المتكررة قد بدأ يفقد السيطرة على إدارة الوزراء وبالتالي إدارة حكم تشرف على توجيهه عن بعد قوات الاحتلال.
هذه الفوضى انكشفت أخيراً في مسألة إلقاء القبض على الرجل الثاني في حكم صدام حسين. وقبل التأكد من المعلومات بدأت فرقة علاوي تعزف على أوتار شاذة وغير منسقة. فهذا يعلن أنه قبض عليه في معركة شرسة سقط خلالها أكثر من 70 قتيلاً من أنصاره وحرسه الشخصي. وذاك يقول إن القوات الأميركية والحرس الوطني المشتركة حصلت على معلومات تفيد بأنه سيقوم بإجراء فحوص طبية وتغيير دمه في أحد مستشفيات تكريت فطوقت المنطقة وقبض عليه.
بعد فوضى المعلومات بدأت فوضى التحليلات والتوقعات. هذا يصرح بأن الدوري (المجرم والسفاح) هو قائد المقاومة العراقية ضد الاحتلال. وذاك يشير إلى أن الدوري كان ذا ميول «إسلامية» وبسبب «تقواه» الدينية قيّض له أن ينسج علاقات مميزة مع «الإسلاميين» فشل صدام في تحقيقها. وغير هذا وذاك هناك من تبرع بمعلومات خطيرة وهي أن الدوري المذكور (البعثي) هو تقليدياً كان حلقة الوصل بين البعثيين والإسلاميين (الأصوليين)، الأمر الذي ساعد على استجلاب «المتطرفين» و«الإرهابيين» من الخارج لمقاومة الاحتلال. وهكذا تحول الدوري فجأة من مجرم وسفاح وقاتل إلى مونتغمري وهوشي منه وتشرشل وديغول وجورج واشنطن والجنرال جياب وبات من أبطال المقاومة، بل ربما قائد المقاومة ضد القوات الأميركية.
كل هذه البطولات نسبت إلى مجرم سفاح يغدر بأصحابه ورفاقه في ظل فوضى معلومات نقلت عن اعتقاله في لحظة ضعف في المستشفى حين ذهب إليه ليستبدل دمه المصاب بسرطان اللوكيميا. وبمناسبة الحديث عن مرض «بطل العراق» سقطت عشرات التحليلات عن إصابته بالمرض وحالات الغيبوبة التي يمر بها وضعف جسمه وعدم قدرته على الوقوف أو التركيز الذهني بسبب تناوله المفرط للأدوية وأحياناً بسبب عدم وجود الأدوية... إلخ.
كل خبر يعارض الآخر. وكل التناقضات وضعت في كفة شخص يقال عنه إنه رجل المهمات القذرة في عهد صدام ويعاني من مرض خطير لا يسمح له بالتفكير والتخطيط. فمن أين جاءت «إسلامية» هذا المجرم وكيف أسقطها عليه وزراء حكومة علاوي؟ وكيف يمكن لشخص مريض يعاني من نقص في الأدوية والمعاينة الطبية أن يقوم بالتخطيط والوصل والربط والفصل بين حلقات «البعثيين» و«الإسلاميين»؟
كل هذا لا جواب عليه، إلى أن أشار تحليل الحامض النووي إلى أن المقبوض عليه ليس المذكور وإنما من عائلته. وحتى يتأكد الخبر الأخير من حكومة الفوضى، هناك أسئلة تطرح: لمصلحة من يصدر وزراء علاوي شهادات حسن سلوك وتعطى لمسئول سابق يقال عنه إنه مجرم؟ وما الهدف من إغداق كل هذه الصفات على قاتل؟ وما القصد من إعطاء براءة الذمة لكل من ارتكب المعاصي الكبيرة والصغيرة بحق الشعب العراقي طوال عقود ثلاثة؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 734 - الأربعاء 08 سبتمبر 2004م الموافق 23 رجب 1425هـ