الآن، وبعد انتهاء فترة الصيف من حرارة وجفاف، وما مرت به المملكة من انقطاعات متكررة للكهرباء والماء واضطرار بعض الأحياء للنوم في الشوارع، بالإضافة إلى التدني المستمر لنوعية المياه المزودة للمنازل بسبب زيادة نسب خلط المياه الجوفية غير الصالحة للاستخدام الآدمي، وكل ذلك - كما هو معلوم - بسبب الضغط على هذه المرافق ومحدودية الطاقة الإنتاجية للماء والكهرباء، وفي بعض الأحيان حدوث أخطاء قاتلة في التخطيط والتنسيق مع الجهات المزودة للكهرباء (ألبا)، التي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، عبر الانقطاع الكلي عن جميع مناطق البحرين في يوم «الاثنين الأسود» كما أسمته بعض الصحف، (23 أغسطس/ آب 2004)
، أو كما أسمته «الوسط» بـ «يوم الحصاد المر»، إشارة منها إلى تراكمات الفسادين المالي والإداري بوزارة الكهرباء والماء في المراحل السابقة، وما أثاره هذا الموضوع من جدل في الصحافة المحلية والمجلس الوطني وتشكيل لجان تحقيق ومطالبة البعض باستقالة المسئولين بالوزارة بسبب الخسائر المادية الكبيرة لجميع القاطنين في المملكة من سكان وخدمات صحية وقطاعات تجارية، التي قدرها البعض بملايين الدنانير، والبعض الآخر بمئات الملايين من الدنانير، ناهيك عن فقدان الثقة بالبنية التحتية للمملكة باعتبارها مركز مالي واستثماري، وما إلى ذلك من تأثيرات سلبية على الاقتصاد الوطني. وفي رأيي، أنه بغض النظر عن من هو المسئول عن هذا الفشل الأخير وإذا كان ما حدث هو تراكمات لسوء إدارة سابق أو خطأ خارج عن الإرادة، فإن الاستنتاج الواضح والثابت هنا هو وجود سوء تخطيط في الوزارة بسبب عدم الأخذ في الاعتبار التخطيط الحديث بعيد المدى، الذي ينظر إلى المستقبل واحتمالاته ومن ضمنها إدارة المخاطر والإدارة تحت ظروف عدم التأكد والاطمئنان.
تقلص الخيارات
أقول بعد كل هذا، هل لنا أن نجلس ونناقش ونتفكر في موضوع الماء والكهرباء والقضايا المتعلقة بهما بجدية وبموضوعية بعيداً عن السياسة والمكاسب الشخصية وتصفية الحسابات، وأن ننظر إلى مشكلة الماء والكهرباء المزمنة في المملكة وكيفية حلها، ليس للعام المقبل، وإنما للجيل المقبل... كيف يمكن أن تستمر هذه الخدمات الحيوية للمواطن والقطاعات الاقتصادية بصورة مستديمة من دون انقطاع وتدنٍ في نوعية المياه، وما هي أسباب المشكلة الحقيقية وكيف يمكن حلها، وما هو دور المسئول الحكومي وما هو دور المواطن، وما هي الخطوات التنفيذية المطلوبة لحل هذه المشكلة التي تطل برأسها على المملكة في موسم الصيف من كل عام. هل هذه الإطلالات هي بوادر لأزمات آتية أكثر حدة، أم أنها مشكلة وقتية تنتهي بانتهاء فصل الصيف؟ علماً بأن الكثير من الباحثين في المملكة نبهوا إلى خطورة الوضع منذ أكثر من 10 سنوات وتنبأوا بظهور المشكلات والأزمات المائية والكهربائية التي تعاني منها المملكة حالياً، فالمشكلة واضحة: معدلات زيادة سكانية وتوسع عمراني متسارعين، وتأخر في تنفيذ مشروعات التحلية (سواء بسبب سوء التخطيط أو الفساد فهذا لا يهم الآن وهو جزء من الماضي)، وتفاقم الوضع بسبب عدم النظر إلى المشكلة وتحليلها بشكل علمي ومحاولة حلها بشكل جذري ومتكامل منذ فترة بعيدة. وللأسف، فبسبب هذا التأخير فإن نافذة الفرص المتاحة أمامنا حالياً لحل المشكلة أصبحت ضيقة جداً وأدت إلى تقلص عدد الخيارات التي كانت ذات جدوى في السابق.
المشكلات التي تعاني منها المملكة ليست مقتصرة عليها فقط، فجميع الدول المجاورة تعاني من المشكلة المائية، وبشكل أقل من مشكلة الطاقة، وإذا كانت هذه المشكلات لم تظهر في بعض الدول بسبب قدراتها المادية التي تستطيع أن تؤخر حدوثها لبعض الوقت فهي آتية لا محالة إذا ما استمر النمو السكاني والأنشطة التنموية المختلفة بمعدلاتها الحالية، وسيتحمل الجيل المقبل في هذه الدول تبعات قصر النظر الإداري الحالي، كما نتحمل نحن الآن كمواطنين والوزارة الحالية - التي في رأيي تستحق الشفقة بدلاً من الرجم - كل تراكمات الإدارات البائسة السابقة وفسادها الإداري والمالي وقصر نظرها.
الحل ترشيد الاستهلاك
في اعتقادي، أنه تحت هذه الظروف، ليس أمامنا إلاّ حلٌ واحد وهو تقليل الطلب على الماء والكهرباء وترشيد استخدامهما خصوصاً في الشرائح المستهلكة الكبرى، فالتوسع السكاني والإسكاني في المملكة سيستمر بمعدلات متسارعة بحسب جميع المؤشرات الحالية، وبناء محطات التحلية لتوفير الاحتياجات الناجمة عن هذا التوسع سيخفف من المشكلة لا غير، وتصبح فاعليتها موضع تساؤل إذا ما نظرنا إلى مخزون الغاز الطبيعي بالمملكة، وكلف توفيره من الدول المجاورة. وكلنا أمل أن يتم تنفيذ مشروع الربط الكهربائي مع دول مجلس التعاون والمؤمل عليه أن يساهم بشكلٍ كبير في تخفيف مشكلة الطاقة، ولكن ستبقى المشكلة المائية موجودة وبحدة أكبر من الوضع الحالي.
حالياً، يوجد اعتقاد راسخ في المجتمع الدولي المهتم بالمياه والموارد الطبيعية الأخرى، بأن مستوى الوعي المجتمعي بالمياه وبقية الموارد الطبيعية يؤدي دوراً حاسماً في حل المشكلات المتعلقة بهذه الموارد التي يمر بها هذا المجتمع ويساهم بشكل كبير في تخفيف حدتها، وبأن المجتمعات التي تثمن هذه الموارد وتقدر قيمتها هي الأكثر قدرة على التكيف مع ظروف الشحة التي تعاني منها، بل وتستطيع قلب المعادلة السالبة وتعظم القيمة المضافة لها وتساهم في رفع مستوى المعيشة عند توظيفها لهذه الموارد بكفاءة اقتصادية في أنشطتها التنموية مع المحافظة على العدالة الاجتماعية في توزيعها والحق في استغلالها.
وليس المقصود هنا بالوعي المجتمعي المستهلكين فقط، وإنما كذلك المسئولين، فلقد تبين من التجربة أن عدداً من المسئولين الحكوميين ينقصهم الوعي بمستوى خطورة القضية ولا يمتلكون الرؤية المستقبلية لهذا القطاع الحيوي المهم في المملكة، حالهم - وللأسف - حال رجل الشارع العادي، ولايزال تفكيرهم منحصراً في كيفية حل المشكلات اليومية، ويتم تعاملهم مع المشكلة من منظور العلاقات العامة وأساليبها قصيرة النظر من تزيين للواقع للحصول على رضا أولي الأمر.
وفي رأيي، هناك حاجة إلى رفع الوعي المائي والكهربائي في المجتمع البحريني بشكل عام، كما ذكرت كمستهلكين ومسئولين، وبشكل منظم ومخطط، ليس فقط لبناء جيل واع وذي قيم وسلوك استهلاكي سليم للمحافظة على الماء والكهرباء والغاز الطبيعي وتقليل استنزافها، وإنما كذلك لإشراك المجتمع بفئاته وقطاعاته كافة، ودعم تدخله في القضايا المتعلقة بالموارد الطبيعية وتطوير عمل مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة بالمياه والبيئة، والضغط والدفع نحو التأثير على السياسات والأولويات الاجتماعية والاقتصادية لتأخذ بالاعتبار السياسات المائية والبيئية لتحقيق التنمية المستدامة. ومن خلال إطلاع المجتمع بكل فئاته ومؤسساته بشكل مباشر على قضية المياه والكهرباء في المملكة والتفاعل معها واستطلاع وجهة نظره وطرح المشكلات أمامه وإشراكه في الحلول، كل ذلك يمكن أن يساهم في حل المشكلة بشكل أكثر فعالية على المدى البعيد.
الشفافية وعدم التمييز
يرى البعض أن هذه نظرة مثالية نوعاً ما، ولكنها - في رأيي - رؤية قابلة للتحقيق متى ما توافرت الإرادة لذلك وتمت مشاركة جميع الأطراف فيها. وأول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر مصطلح «رفع الوعي»، هو موضوع حملات التوعية، ولكن يجب عدم النظر إلى هذا الموضوع على أنه مشروعات حملات إعلامية مؤقتة تمتد لفترة زمنية محدودة وتزول تأثيراتها بانتهاء هذه الحملات، وإنما التعامل معها على أنها عملية متواصلة ومستمرة، تهدف في النهاية إلى خلق مجتمع واع وموجه مائياً وكهربائياً، يثمن هذه الموارد وينظر إلى ترشيد استخدامه لهما والمحافظة عليهما كسلوك يومي. كما أن عملية رفع الوعي لا تشمل تغيير المــوقف الشخصي للمستهلك فقط، وإنما كذلك النظر إلى المعايير المجتمعية السائدة في المجتمع البحريني وتحديد السلبي منها لتغييره والايجابي منها لتعزيزه والبناء عليه واستثماره، التي - في نهاية الأمر - تؤدي إلى رفع جدوى الفاعلية الشخصية للفرد في هذا المجتمع.
وكما هو معروف في مجال إدارة الماء والكهرباء، تتوافر للمسئولين مجموعة من الأدوات التي تساعدهم في الحفاظ عليهما وتحقيق الاستخدام الاجتماعي والاقتصادي الأمثل لهما بهدف تقليل كلف تزويدهما للمستهلكين وضمان استدامتهما. ويمكن تصنيف هذه الأدوات إلى أدوات تقنية، وأدوات تنظيمية وتشريعيـة، وأدوات اقتصادية، وأدوات توعويـــة. وجميع هذه الأدوات - إذا استخدمت بطريقة مدروسة على أسس علمية ـ تستطيع أن تؤدي بفعالية إلى تحقيق أهداف الإدارة الموضوعة لهذه الموارد. وبوجه عام يكون استخدام هذه الأدوات الإدارية أكثر سهولة في المجتمعات المتطورة ديمقراطياً مقارنة بالمجتمعات الأخرى، إذ يتم تشريع وتنظيم استخدام هذه الأدوات بموافقة ممثلي المجتمع، والذين يشرعون هذه الإجراءات بناء على تأثير مجموعات اللوبي والضغط الموجودة بالمجتمع والناخبين عليهم، أي بأسلوب ديمقراطي تشاوري. ولكن في المجتمعات الخليجية، التي يكون فيها الجهاز التنفيذي هو المشرع والمنفذ في الوقت نفسه، فإن المستهلك ينظر إلى استخدام هذه الأدوات من قبل الدولة عليه بأنها مفروضة فرضاً، وبالتالي يواجه تطبيقها بصعوبات جمة وعدم رضا من قبل المستهلك من جانب، وتحمل معها مخاطر سياسية للدولة من جانب آخر. ويفاقم الوضع عدم وجود الشفافية والالتزام بالعدالة الاجتماعية في التطبيق، أي أن يتم تطبيقها على فئات معينة وعدم تطبيقها على فئات أخرى، ما يفقد الجهاز التنفيذي صدقيته وثقة المواطن فيه، وهنا - طبعاً - تفشل الإدارة في تحقيق أهدافها.
وتعتبر أدوات رفع الوعي من أهم الأدوات في الإدارة المائية وذات الأهداف والنتائج بعيدة المدى، فبدون رفع الوعي ككل في المجتمع ومشاركة المجتمع بمختلف فئاته في المحافظة وترشيد الاستخدام اقتناعاً، والمساهمة في حل المشكلات تطوعاً وسلوكاً، تصبح جميع الأدوات الأخرى ذات صفة فوقية وتمثل ما يسمى بنظام الأمر والتحكم، وهي على نقيض ما يسمى بالمنهجيات التشاورية والتشاركية، والتي عادة ما تكون فعاليتها وتأثيراتها في تحقيق أهداف إدارة الموارد المائية والطبيعية البعيدة المدى محدودة وموضع سؤال.
ولذلك فإنه من الخطأ النظر إلى عملية رفع الوعي كوسيلة للحصول على أهداف معينة وضعت من قبل المسئولين والباحثين فقط، فهذا يعتبر نظرة ضيقة للموضوع. وحالياً هناك اعتراف واسع للحاجة إلى إشراك المجتمع والمؤسسات غير الحكومية ذات العلاقة في برامج الحكومة في هذه العملية. كما يجب ألا يساء فهم مصطلح رفع الوعي بأنه يعني بأن الجهة الحكومية ستقوم بتعليم الفئات الأخرى لكي تكون واعية، أي أن رفع الوعي يُملى كعملية فوقية، فليس هذا هو المعنى المطلوب، ويجب أن ينظر إلى رفع الوعي بأنه عملية تفاعلية بين اكبر عدد من فئات وشرائح المجتمع ذات العلاقة بالموضوع، كل منها له دوره ومسئولياته ووسائله لإيصال صوته، وتقوم بعملية الضغط واللوبي المجتمعي، وتساهم في حل المشكلة.
إن مصطلح الوعي هو مصطلح مبهم وعام، ولكنه مفهوم بديهياً لمعظمنا ويستعمل في الكثير من المواقع، ولكن الموضوع هو أكثر تعقيداً من ذلك، وله علاقة وثيقة بالمعرفة، والموقف، والسلوك، وتأثرها بالمعايير والظروف المجتمعية والسياسية السائدة وكذلك الفاعلية الشخصية المتوقعة. فعلى سبيل المثال لماذا يبدأ شخص ما في المحافظة على المياه والكهرباء وترشيد استخدامه لهما بعد تعرضه لأنشطة حملة توعوية في مجال ترشيد المياه والكهرباء، بينما نجد اللامبالاة من شخص آخر، وفي بعض الأحيان نجد شخصاً يقوم بعمل مضاد تماماً لما هو مطلوب؟
العناصر المطروحة أعلاه والتي تشكل سلوك الفرد مرتبطة بشكل وثيق بمفهوم المواطنة من حقوق ومسئوليات والشعور بالانتماء لهذه الأرض، وتعقيدات الوضع السياسي الراهن، وثقة المواطن بالجهاز التنفيذي بالدولة وصدقيته، ومدى سماع صوته والأخذ به في إدارة أمور الدولة ومواردها الطبيعية، وحقه في المساءلة عن كيفية إدارة الجهاز التنفيذي للموارد الطبيعية والعدالة الاجتماعية في توزيعها. وفي اعتقادي أنه يمكن تبسيط جميع هذه التعقيدات بطرح السؤال الاتي: هل يوجد الشعور عند المواطن البحريني عند توفيره لمتر مكعب من الماء أو لوحدة كهرباء واحدة بأنه يقوم بواجب وطني ويحافظ على ثروة وطنية وبالتالي يساهم في العملية التنموية في المملكة؟ أم أن الجانب الاقتصادي (قيمة الفاتورة) هو الذي يملي عليه ترشيد استخدامها فقط. وفي رأيي أن التحدي الأكبر الذي يواجه المملكة ـ حكومة وشعباً معاً والذي يجب أن نسعى له ـ هو تحقيق الجزء الأول من هذا السؤال.
لقد بدأ الإصلاح السياسي في المملكة منذ فترة قصيرة، وأعطى المواطن دفعة كبيرة نحو الشعور بالمواطنة والانتماء، كما أعطاه الشعور بإمكان المشاركة في اتخاذ القرار ووضع التشريعات، وتحقق أثناء هذه العملية عدد من النجاحات، ولكن كذلك مرت بعدد من الانتكاسات التي تجاذبت هذا الشعور هنا وهناك، وهذا الأمر طبيعي إذ أن العملية الإصلاحية في بداية الطريق، ويجب حرق مرحلة التجربة الديمقراطية الأولى هذه ليقل مستوى الضوضاء وتستقيم الأمور في الاتجاه المطلوب بعد ذلك. ولكن، في رأيي سيظل مستوى الإدارة وحل مشكلة الماء والكهرباء والموارد الطبيعية الأخرى مرهوناً بمستوى الوعي العام للمجتمع، والذي بدوره سيعتمد على التطور الديمقراطي والنضج السياسي اللذين سيصل إليهما المجتمع البحريني.
رئيس مجال الدراسات التقنية بجامعة الخليج العربي
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 733 - الثلثاء 07 سبتمبر 2004م الموافق 22 رجب 1425هـ