ربما يتذكر الكثير من القراء الملاكم الأميركي الشهير محمد علي كلاي، وطريقة لعبه المميزة. كان يدور حول الحلبة كالفراشة، يسدّد اللكمات المباغتة إلى وجه الخصم، حتى ينهكه ويضعف مقاومته، وفي الأخير يوجه الضربة القاضية التي تلقيه أرضاً ليعلن الحكم فوزه باللقب.
تذكّرت محمد علي كلاي وأنا أفكر في أهم ظاهرة ملفتة في الصحافة في البحرين خلال العامين الماضيين، لأقف على طريقة الأداء الصحافي للسيدضياء الموسوي وهو منهمك في جولاته مع الفساد المالي والإداري. ولأن الرجل يقلّب التربة النتنة لبعض المواقع الأكثر تورطاً، لذلك يتناوشه الكثيرون من كل جانب، وفي غالبية الأحيان لا يذكرون اسمه، ولكن بلدنا صغير جداً، فما أن تذكر وصفاً معيناً حتى يتبادر إليك شكل الموصوف. حتى بعض أنصار التيار الديني (الشيعي تحديداً) أساءوا فهمه، فلم يدركوا طريقة لعبه، فأخذوا يثيرون الغبار حوله كشخص وكأسلوبِ لعِبٍ اختاره عن قناعة، بعد أن جرب طرق اللعب الأخرى، التي قادته إلى المعتقلات والتحقيق، والغربة عن الوطن عشر سنوات، لتصل قمتها الدرامية بدخوله السجن ليوضع مع المصابين بالإيدز ومهربي المخدرات.
السيدضياء يساعده جمع كبير من «المتعاونين» والمتضررين والنازفين في مختلف الأماكن والمواقع، أملاً بإصلاح المواقع الفاسدة. ومشكلة السيد، أو بالأحرى مشكلة الآخرين معه، أنه يتكلم وبيده حزمة ضخمة من الوثائق والأرقام والرسائل والمعلومات. حينما تكلم عن الأوقاف الجعفرية كان يغرف من منجم كبير، يدين غالبية أفراد إداراتها، فيذكر تواريخ الصفقات وأرقام «الشيكات»، ويلمح إلى نسبة العمولات. ولذلك لم نجد رداً واحداً من أيٍّ منهم، بينما كانوا يردون على انتقادات أهون مما يطرحه بقولهم المترجرج: «لم نصرف حتى فلساً واحداً في غير محله»!
السيدضياء الذي يظل يتكلم في البرية بأعلى صوته، نقل الكرة إلى ملاعب الآخرين ليتحملوا المسئولية، ولكن الكثيرين ليسوا مستعدين لذلك، وهم أهل الحل والعقد على المستوى الشعبي، ليضيع الملف وتضيع معه أموال المآتم والحسينيات. وليس عليه من ذِمَامٍ إن تقاعس الآخرون عن تحمل مسئولياتهم «الشرعية»، أو اعتبروا أنفسهم غير معنيين بالقضية جملة وتفصيلاً.
في جولة أخرى دخل الموسوي حلبة التأمينات، وقلب التربة حتى مهّد الطريق لكشف المفاسد التي أضاعت مدخرات المودعين من أبناء هذا الوطن، مدنيين وعسكريين، وانتهى الملف إلى مجلس النواب ليوضع على الرف بعد تلك المداولات الساخنة. والموسوي ليس مسئولاً عن غلق الملف بهذه الطريقة الالتفافية أيضاً. يكفي أنه تكلم وأخرج الخبء من تحت الأرض، بعد أن كان هناك إصرار مستميت على أن أموال الناس «في أيدٍ أمينة» لا ترقى أليها الشكوك!.
خطأ السيدضياء!
الملف الأخير الذي يقلبه السيد هو ملف الكهرباء، الذي سيظل ساخناً لفترة، ليس لأن البرلمان لم يكترث بتبني قضيةٍ عصفت بالبلاد فحسب، ولكن لأن الموضوع تداخلت فيه خيوط أخرى، في محاولةٍ لخلط الاوراق وتعكير ماء البئر. والخوف أن يتم تحويل الأنظار من معالجة جذر المشكلة التي زاد عمرها على 25 عاماً، إلى سجال «نحن» و«أنتم»، وكأن كل قضية تهمّ الوطن ومستقبل المواطن لابد من مصادرتها، ليس بأوامر «أمن الدولة» هذه المرة، وإنما بدمغها بتهمة «الطائفية»، لتسقط في الوحل. وهو «تكتيك» تكرّر مراراً، من مناقشة قضية التجنيس إلى التأمينات وقضية التعديل الدستوري... فكل ما يهمّ عموم المواطنين سيتم دمغه بالطائفية ليسقط في الوحل.
مباراة الموسوي الأخيرة وصلت إلى نقطة الاصطدام، بانتقال وزارة الكهرباء إلى الرد المباشرفي مقالٍ صحافي طويل و«أقرع»، إذ هي لم تفند الإشكالات أو تقدم ردوداً مقنعة على الأسئلة، وإنما أثارت المزيد من الأسئلة، وخصوصاً لمحاولة تحريف النقاش من قضية معالجة «فساد» و«تمييز» و«إبعاد كفاءات» و«مناقصات متورط فيها عدد من مسئولي الوزارة»، إلى «طائفية» و«فحيح»!
لسنا ننتقد الموسوي في طريقة لعبه وحركته الرشيقة مع «وزارة الكهرباء»، ولكن نشير إلى خطأ تكتيكي كبير وقع فيه، عندما طالب «الفرسان الثلاثة» بالنزول إلى حلبة المناظرة، فهؤلاء لن يقبلوا التحدي على الإطلاق، لأن طريقة لعبهم مختلفة تماماً: «الضرب من وراء الجدار». فمن السهل أن تتهم شخصاً بالطائفية في هذا البلد المحتقن بهذا الداء، «ولكن من الصعب أن تقدم الدليل» كما قال المهاتما موهانداس غاندي محرّر الهند الأكبر. ومما يثبت خطأ التكتيك الأخير بطلب المناظرة أنه يطلب منازلة طرفٍ يملأ الأوراق بآرائه «السياسية» الموجهة ـ «الروموت كونترول»، ويدّعي كل يوم أنه لا يكتب في السياسة، وإنما هو يكتب بصفته واحداً، أو «واحدة» من الناس. كلامٌ يذكرنا بقصة «راهبة الوادي» التي تدّعي التبتل وهي تموت على رائحة الرجال
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 733 - الثلثاء 07 سبتمبر 2004م الموافق 22 رجب 1425هـ