بحسب السجلات الرسمية، فإن موظفي الدولة ليسوا في قائمة «الأسر المحتاجة»، لكن كلف المعيشة المرتفعة باتت تطحن حتى الفئات الوسطى. إن كان هذا يؤكد شيئاً، فإنه يؤكد الحاجة الماسة إلى تحسين مستويات المعيشة.
وعلى نحو ما، فإن الالحاح المتزايد على هذا النوع من المقاربات الذي لا يجترح أكثر من «المساعدات لا يفعل سوى أن يؤكد أن خيالنا مازال محصوراً في حدود «أطعام الناس السمك» بدلاً من تعليمهم صيده.
في غمرة البحث عن الوسائل والأفكار تغلب اللهفة: برلمان بحاجة إلى الانجازات والحكومة تتسابق مع النواب أيضاً لكسب الرضا والاستحسان، لكن أليس هذا هو وأجب البرلمانات والحكومات؟
أياً كان الحل المقترح... إسقاط القروض، إسقاط الفواتير، «عيدية» أو راتب أضافي «بونس» ملزمة بقانون... كل هذه إجراءات يمكن أن تدخل البهجة في النفوس وتجعل الناس يتنفسون الصعداء قليلاً، لكن الاقتصاد والمعيشة تحكمها قوانين أخرى ابسطها ذلك الذي سيلي بهبتنا فوراً عبر سؤال لا أبسط منه: ماذا بعد؟
للاقتصاديين يصاغ السؤال على نحو آخر: أيهما أجدى إسقاط القروض أم محاربة هذا الميل المتزايد للاستهلاك وتالياً للاقتراض؟ أن نصرف المساعدات للموظفين والمعدمين أم نكافح التضخم؟ البسطاء من الناس لا تعني لهم هذه الأسئلة الكثير ولن يتوقفوا عندها حتماً، لكن لنر الجواب في مكان آخر.
أنا كان هناك من يتسابق لشراء هواتف نقالة توازي قيمتها راتب موظف، فالمؤكد أن الخلل لا يعود إلى الثقافة العامة التي لا تزال تولي المظهرية اهتماماً فائقاً، بل إن المخططين الاقتصاديين يتحملون بلاشك شيئاً من المسئولية.
على مدى الأيام الماضية، رحنا نتابع الاخذ والرد بين أصحاب اقتراح «العيدية» وبين الحكومة التي يقال إنها وافقت على الاقتراح من حيث المبدأ لكنها تريد صرفها على الموظفين المجدين فقط، وهو ما يقلل الرقم من 53 مليون دينار إلى النصف تقريباً.
على نحو ما، يبدو صرف مساعدات للموظفين بعيداً عن مقاييس الإنتاجية والكفاءة نوعاً من «أطعام الناس السمك». وعندما نصل إلى تقييم الكفاءة ستلوح الشكوى من جديد من غياب الأنصاف وغلبة الأهواء والولاءات الشخصية السائدة في مستويات الإدارة الوسيطة وحتى العليا، وهذه قصة أخرى.
الإشكالات التي يمكن أن تثار هنا ستقودنا بالنهاية إلى مقاييس الثواب والعقاب لموظفي الدولة ومفهومنا للأحقية في المكافآت. الحديث لا يدور هنا حول أسر محتاجة ومعدمة، بل عن موظفي دولة يخضعون لمقاييس وأنظمة للحكم على استحقاقهم للمكافآت أهمها تلك المتعلقة بالإنتاجية والكفاءة.
هل تذكرون تلك السنوات التي كان فيها موظفو المصارف يحصلون على مكافآت تصل إلى 4 وأحياناً إلى 6 رواتب؟ لكن ذلك السخاء كان مرتبطاً أساساً بالأرباح التي كانت تحققها هذه المصارف، وغذا شئنا تطبيق المقياس نفسه على موظفي الحكومة، فهل لنا أن نخلص إلى أن المكافأة مرتبطة بالأرباح أم بالإنتاجية وكفاءة موظفي الدولة؟ هل يستحقها لأنه موظف فحسب أم لأنه كفوء ومنتج؟
أجهزة الدولة لا تدر الأرباح للأسف بل هي أكبر باب للأنفاق، وطالما أن الأموال لن تأتي إلا من الموازنة العامة للدولة أو من الاحتياطي العام، ألا يصح هنا التساؤل عما إذا كان من الأجدى غرف المساعدات من الاحتياطي العام أم تنميته؟ ربما نسي كثيرون أن هامش الاقتراض بات يتسع في الموازنة العامة للدولة (قروض لتمويل مشروعات بنية تحتيل وغيرها)، وهذه الحقائق عندما توضع مع بعضها بعضاً أمام الحاجة الملحة إلى تحسين مستويات المعيشة، فإن «المساعدات» لن تكون بالنهاية سوى «حلول سهلة».
أشعر بقليل من الضيق عندما يرد في ذهني أن ثمة من يمكن أن يفسر هذا بأنه تمنع عن مساعدة الناس الذي يعانون الأمرين في تدبير معاشهم ومعاش ابنائهم، لكن أيهما أجدى: أن نحقن اقتصادنا بعوامل النمو ونكبح التضخم والميل للاستهلاك ونحارب الفساد والهدر أم نصرف المساعدات؟ الخيار الأول صعب بالتأكيد، لكن دلوني على ما هو أجدى من ذلك على المدى البعيد؟ متى كانت إدارة اقتصاد بلد ومعيشة الناس أمراً سهلاً؟
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 732 - الإثنين 06 سبتمبر 2004م الموافق 21 رجب 1425هـ