تم اختطاف ثلاثة من الطلبة الفلسطينيين في مدينة غلاسغو شمال بريطانيا، وطالب المختطفون بتنحي ياسر عرفات عن السلطة فورا، وإلا قتل الطلاب الثلاثة عن طريق حرقهم أحياء حتى الموت على الطريقة السكسونية القديمة، وقد أمهل المختطفون السلطة الفلسطينية ثلاثة أيام لإعلان التنازل، وإلا نفذوا تهديدهم. ومما يذكر أن الصحافة البريطانية بقيت صامتة عن هذا العمل الإجرامي، كما سُمعت أصوات من الرأي العام البريطاني مرحبة بهذا الفعل على أساس أنه يتوافق مع الرغبة الشعبية للضغط على العرب والمسلمين في بريطانيا لسحب عائلاتهم والخروج من البلاد، كونهم قوة أجنبية تستفيد من الخدمات المقدمة للجمهور البريطاني على غير وجه حق.
لو افترضنا أن هذا الخبر وما تلاه من تعليق صحيح فعلاً، وتوقعنا ردة الفعل التي يمكن أن تحدث في بلادنا، لوجدنا أن بعضنا سيسارع بالمطالبة فورا باختطاف كل الاسكتلنديين العاملين عندنا والتهديد بذبحهم، بل ربما كل الغربيين، حتى يطلق سراح المخطوفين الثلاثة، كما أن الهجوم الإعلامي الصاعق سيبدأ من دون أن يتوقف لصب اللعنات على هذه البربرية التي تدعي الحضارة، وأن ذلك تدخل فج وغير مقبول (للتدخل في شئوننا الداخلية) والتي نرفض بقوة أن يتدخل فيها احد كائنا من كان.
فوق ذلك فإن هذا العمل الإجرامي تم ضد ثلاثة شبان أبرياء، فهم طلبة وليسوا إرهابيين، ثم يطالب بعضنا بأعلى صوته بمقاطعة «البضائع» الاسكتلندية، والهجوم على كل المصالح التي تمثل هذه البلاد بما فيها منع دخول الجنيه الاسكتلندي إلى بلادنا.
ولأنه خبر لا يمكن أن يحدث، وذلك لعدد كبير من الأسباب، منها الموقف الحضاري لدى الشعوب الغربية، فالحدث إن تم ستدينه مباشرة أولاً المؤسسات الأهلية البريطانية قاطبة، ولن يجد أحداً في المؤسسات الإعلامية أو غيرها أي تبرير لهذا العمل، ولن يقبل هذا التبرير بأية صورة إن وجد، بل وستقدم الحكومة البريطانية اعتذارها على الملأ، وتلاحق المختطفين، حتى لو فروا إلى أوروبا، فستقوم الحكومات الأوروبية بملاحقتهم حتى تخليص المختطفين، وإن قبض عليهم وحوكموا، فسيبقوا داخل السجن لفترة تزيد على ربع قرن، إن كانت قصيرة.
وعلى عكس ما يحدث في بلادنا، فهاهي عصابة في العراق تختطف اثنين من الصحافيين الفرنسيين، وتطلب من فرنسا أن تغير قوانينها التي ارتضتها من خلال برلمان منتخب، لأن هذه العصابة لا تحبذ مثل هذه القوانين ولا ترتاح لتطبيقها هناك (في فرنسا)، وهو ليس تدخلاً في شئون الغير، بل من صلب رسالتنا الى العالم!
موضوع احتجاز الصحافيين الفرنسيين استنفر الكثير من المؤسسات العربية لشجب الفعل الذي هو بكل اللغات إجرامي وبربري. فقد أدانته الجامعة العربية، واتحاد الصحفيين العرب، وعدد كبير من الكتاب العرب على اختلاف توجهاتهم، وهذا شيء محمود.
الصحافي الإيطالي الذبيح
ولكن هذه الإدانة لم تظهر، عندما تم خطف الصحافي الايطالي، وخرج أولاده على شاشات التلفزة العربية يستعطفون الخاطفين من أجل إطلاق سراح والدهم، وهو شخص كان - في أكثر الحالات تطرفاً - يقوم بعمله الذي يتوافق مع القوانين الدولية والأخلاق المهنية، فلم يكن أكثر من صحافي، ومع ذلك تم إعدامه بدم بارد لا يعرف الرحمة.
لقد تقاعس كثيرون عن إدانة وشجب قتل ذلك الرجل الايطالي الأعزل بسبب وجود قوات ايطالية على أرض العراق، وهو عذر لدى العقلاء غير مقبول، ويساوي العذر في الخبر الافتراضي السابق، أن العرب والمسلمين يشاركون في استخدام مؤسسات «دولة الرفاه البريطانية» من دون وجه حق! لذلك وجب اختطاف بعضهم!
إن مثل ذلك العذر هو موافقة ضمنية للبرابرة على أعمالهم، فقتل رجل بريء لا يبرّره أي عمل حتى لو كان وجود قوات لبلده على أرض العراق، التي يعرف الجميع أسباب وجودها والظروف التي وجدت فيها، كما أن قتله لن يقدم أو يؤخر انسحاب أو بقاء قوات دولته.
ليس هناك إعدام لرهينة مبرر، وإعدام آخر غير مبرر أو مشجوب، كما أنه ليس هناك قتل لرهينة والاحتفاظ برأسه في ثلاجة، كما فعلت عصابة الإجرام في الرياض، فكل هذه الأعمال بربرية، لا يبرّرها عقلٌ أو منطق، وهي أعمال خارجة عن أي تبرير ديني أو مقاصد شرعية.
فمثل هذه الأعمال، اختطاف وقتل للأبرياء من دون ذنب جنوه، أعمال مدانة في كل الشرائع وفي كل الدول، وفي كل الأوقات، مهما كان موقع من قام بها أو ملته، فهي أعمال متوحشة إلى أبعد الحدود. وأما القتل الذي تم لعدد من العمال المساكين من النيبال فهو إجرام واضح، ولقد امتنعت الكثير من المحطات التلفزيونية عن عرض تلك الصور البشعة المقززة لأي إنسان سوي، وخالية من أي شكل من أشكال الشعور بالإحساس الإنساني. وقد عرضت بعض مواقع الانترنت بعضاً من هذه الصور، فكان سبّة لكل من له علاقة بهذه العصابات إلى يوم الدين.
في جميع الحالات، لا يستطيع أي عاقل إلا أن يتبرأ من هذه الفعلة في الدنيا والآخرة، فهم عصابات مجرمة، لا يمكن أن تختفي طبيعتهم المفارقة للانسانية خلف الشعارات التي رفعوها. ومن العجب أن يظهر البعض على شاشات التلفزيون ليقول إن هذه الجماعة أو تلك هي جماعة مقاومة، ونحن نتفهم دوافعها، ولكنا لا نرغب في أن ندفع فرنسا إلى الوقوف مع الولايات المتحدة ضدنا. مثل هذا الحديث يعني - بالعربي الفصيح - ان اختطاف الصحافيين والأبرياء جائز لدى هؤلاء، وأن القضية هي موضوع «تكتيكي»، أي حتى لا ندفع فرنسا للوقوف ضدنا!
لا يفرق هؤلاء مع الأسف بين «المبدأ» الذي يجب أن يدافع عنه بصرف النظر عما يمكن أن يحقق من ربح أو خسارة، وبين التكتيك السياسي الانتهازي الذي تتقدم فيه الوسيلة، أية وسيلة، مبررة للغاية.
حقيقة الأمر أن مثل هذه الأعمال، سواء تمت في النجف أو في الرياض أو في الجزائر، لا يوجد أي تبرير لها البتة، ومن يبرّرها فهو مشارك فيها بشكل ما. مقصد هؤلاء القتلة هو أن يشيعوا الذعر لدى الناس للتقاعس عن الدفاع عن حرياتهم، ويرهبوهم حتى لا يقوموا بأي عمل احتجاجي يدافعون به عن مستقبلهم، ويصبحوا طيعين للخضوع لدكتاتورية جديدة. وفي الحال العراقية تتم التصفيات وأعمال القتل على غرار التصفيات التي اتخذها النظام السابق طريقاً للإرهاب.
لم يقبل الشعب العراقي وقتها الإرهاب منفذاً من أجهزة دولة، ولن يقبله العراق اليوم منفذاً من عصابات، كما لن يقبله العالم الذي يرى بأم عينيه كم هو رهيب ومقزز ومفزع هذا القتل العشوائي.
ستبقى صورة النيباليين منكبين على وجوههم وظهورهم مثقوبة بالرصاص، دليلاً أبدياً على شكل الهمجية والبربرية التي قام بها القتلة بإزهاق أرواح مسالمة وبريئة قدمت للعراق لالتقاط لقمة عيشها بشرف.
اكتب هذا الكلام قبل أن يتضح مصير الصحافيين الفرنسيين، ولكن مهما كانت النتائج، فإن المؤكد أن قوانين فرنسا ستبقى كما هي، فالدول لا ترهب. وإذا كانت الحكومة العراقية غير قادرة اليوم على القصاص من هؤلاء، فهي أو من يأتي بعدها من الحكومات العراقية، إن لم تقتص لهؤلاء الضحايا المساكين من القتلة، فلن يأخذ العراق مكانه بين الدول، وبعض أبنائه ملطخة أيديهم بدم حرام
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 732 - الإثنين 06 سبتمبر 2004م الموافق 21 رجب 1425هـ