لن أذهب بعيداً في تاريخ الكويت والعراق في هذا المقال، لأن الموضوع ينحصر زمنياً في السنوات الثلاثين الأخيرة، وفي ما يتعلق بالدور الاميركي المتعاظم الذي تشهده المنطقة جراء التطورات المتسارعة.
ولن أتحدث هنا عن المشكلة، بل سأنقل عنها ما ورد في موسوعة العلوم السياسية (ج2) التي أصدرتها جامعة الكويت في باب دولة الكويت تحت عنوان «المشكلات السياسية»، ص 1798: «كان معظم المراقبين قد اعتقدوا أن المطالب العراقية بضم الكويت قد انتهت خلال الثمانينات لاسيما مع التأييد الكويتي المادي والأدبي للعراق خلال حربها مع إيران، إلاّ أن الأزمة العراقية الكويتية التي تفجرت خلال صيف 1990م وانتهت بالغزو العراقي العسكري لدولة الكويت وإعلان ضمها قد أعاد هذه المشكلة بقوة لم يتوقعها أحد. وقد انتهت الأزمة بهزيمة عسكرية وإجبار الدول المتحالفة بزعامة الولايات المتحدة العراق على الخروج من الكويت وإلغاء قرار الضم، وشرعت لجان دولية في ترسيم الحدود بين الدولتين وإغلاق هذا الملف المفتوح منذ إعلان استقلال الكويت».
من هذه الفقرة نستفيد ما يأتي:
- ان هناك مطالب عراقية بالكويت باعتبارها جزءا من العراق وقد ظهرت هذه المطالب أيام الملكية على لسان رئيس وزراء العراق نوري السعيد، ثم أيام الجمهورية عندما حاول الزعيم عبدالكريم قاسم احتلال الكويت، ولكنه لم يفلح وفي أيام صدام حسين حينما أمر ضباطه وجنوده بالزحف على الكويت واحتلوها في صيف 1990م.
- إن دولة الكويت قدمت للعراق مساعدات كبيرة بلغت عشرات المليارات من الدولارات ووقفت معه وأيدته سياسيا وإعلاميا في حربه ضد إيران.
- إن الكويت لم تتحرر من الاحتلال العراقي إلا بمساعدة الدول المتحالفة بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.
أما ما نستنتج من هذه الفقرة فهو انه لا يجوز استخدام القوة في حل المشكلات التي تنشب بين الدول، بل كان يجب أن يلجأ من يعتقد أنه صاحب حق إلى المنظمات والمحافل الدولية. وبالنسبة للعراق كان ينبغي أن يطرح قضيته مع الكويت على جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو منظمة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي أو المحاكم الدولية.
كما انه لا يجوز تأييد الظالمين مطلقاً ولو كانوا أقرب الناس، فذلك لا يرضاه الله ولا الحق والعدل، لأن نتائج تأييد الظالمين وخيمة جداً، وقد حذر رسول الله (ص) منها في قوله: «من أعان ظالما على ظلم سلطه الله عليه»، وهذا ما حصل فعلاً عند إعانة صدام حسين على ظلمه.
لا يجوز أن نوجّه اللوم أو الاتهام بالخيانة وعدم الوطنية لأية دولة أو فئة وقع عليها ظلمٌ شديدٌ ولم تجد من ينجدها من ذلك الظالم إلا الأجانب الظالمين فاستنجدت بهم، فلو افترضنا أن الكويتيين حكومة وشعبا لم يستنجدوا بأميركا وحلفائها فماذا كان سيحصل؟
بالتأكيد ستظل الكويت تحت سيطرة العراق وتحت حكم صدام، ولن تقل خراباً ودماراً عن المناطق العراقية الجنوبية، وأهلها لا يقلون ذلاً وفقراً وهواناً عن أفقر سكان العراق، وأن دول الخليج العربية تعيش تحت التهديد والخوف من السطوة الصدامية ولا أقول العراقية.
الامام الخميني والشيخ كشك
يجب أن نأخذ بنصائح العارفين المخلصين وإن كانوا من الأبعدين، ففي فترة الحرب العراقية الإيرانية حذرنا الإمام الخميني (رحمه الله) من الاستجابة لألاعيب صدام وتصديق شعاراته، وشبهه بالذئب شراسةً، وبالثعلب مكراً. وكذلك العالم المصري الجليل الشيخ عبدالحميد كشك حذر دول الخليج من مكر صدام وخص الكويت بالتحذير بأنها ستكون السندويشة الأولى التي سيلتهمها صدام بعد فراغه من إيران، ولكن أحداً من المسئولين بالمنطقة لم يصغ لتلك النصائح والتحذيرات حتى وقع الفأس في الرأس، وحينئذ قلنا ندما بعد فوات الأوان (ليت الذي كان ما كان). ولمثل هذه النتيجة المؤسفة أشار الإمام علي (ع) في قوله: «إن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة وتعقب الندامة».
المشكلة العراقية
هل صدام حسين سيئ بالدرجة التي ظهر عليها في وسائل الإعلام؟
تجيب على هذا السؤال المقابر الجماعية التي اكتشفت بالقرب من كل مدينة عراقية في الجنوب، بعضها يحوي المئات وبعضها يحوي الألوف من البشر من مختلف الأعمار. وتجيب على هذا السؤال مصيبة حلبجة الكردية التي قتل فيها خمسة آلاف فرد بالأسلحة الكيماوية في نصف ساعة. وتجيب على هذا السؤال مصيبة الأكراد الفيليه الذين بلغ عدد القتلى والمعذبين والمشردين منهم 120 ألفاً. وتجيب على هذا السؤال السجون الرهيبة التي ألقي فيها مئات الألوف من العراقيين، حتى قيل: داخلها مفقود والخارج منها مولود. ويجيب أيضاً ملايين اللاجئين في البلدان العربية وغير العربية، وآلاف العلماء والمفكرين الذين أعدموا لأنهم عارضوا النظام، والملايين من أشجار النخيل التي قطعت في منطقة شط العرب لأنها - كما يدعي النظام - توفر مخابئ للمتسللين الإيرانيين ثم تجفيف آلاف الكيلومترات من المسطحات المائية الجميلة (الأهوار) الغنية بمختلف أنواع الأسماك والطيور، لأنها توفر مأوى لعناصر المقاومة الجنوبية كما يقول، وباختصار: تحويل العراق من أغنى بلد وأعز شعب إلى أفقر بلد وأذل شعب.
صدام مستبد وليس «طائفياً»
إذن، لماذا لم تتدخل الحكومات العربية والمثقفون العرب لدى صدام حسين ونظامه بطلب التخلي عن تلك السياسة الظالمة الضارة؟ والجواب هو بالنسبة للحكومات العربية فإنها لم تتفق على شيء من الخير، إلاّ ما يسمونه «ميثاق الشرف الإعلامي العربي» المهين، الذي ينص على اعتبار معاملة أية حكومة لشعبها ومهما كانت سيئة شأناً داخلياً لا يجوز أن تتدخل فيه الحكومات الأخرى ولو بالنصيحة!
أما بالنسبة للمثقفين والإعلاميين العرب فإنهم قسمان: قسم منهم كان صدام حسين يغدق عليهم الأموال ويجزل لهم العطاء فهم لا يبرحون عن تأييده وهم الآن في حسرة عليه؛ والقسم الآخر يؤيدونه من منطلق قومي عندما كان ظلمه وبطشه منصباً على الأكراد، ومن منطلق مذهبي عندما كان ظلمه وبطشه منصبا على الشيعة. ولا يعني هذا أن صدام طائفي أو عنصري لهذه الدرجة، وإنما كان كما وصفه المرجع الديني السيدعلي السيستاني بقوله: «ليس صدام طائفياً وإنما هو مستبد». فهو يتعامل مع معارضيه بكل قسوة وشراسة. وبما أن الشيعة والأكراد يعارضونه جماعياً تحت قياداتهم الدينية والحزبية، فانه كان يلاحقهم ويقضي عليهم جماعياً. أما السنة فانهم كانوا يعارضونه أفراداً وكان يقضي عليهم أفراداً. وللعلم فإن أول رجل دين عراقي أعدمه صدام حسين هو الشيخ عبدالبدري، وهو من علماء السنة.
والسؤال: هل كان بالإمكان التخلص من صدام حسين ونظامه من دون تدخل قوة كبيرة مثل الولايات المتحدة الأميركية؟ والجواب لا وذلك للأسباب الآتية:
إن شعب العراق غير متجانس، فهو مركبٌ من عرقيات مختلفة (عرب وأكراد وآشوريين وتركمان)، ومن ديانات مختلفة (مسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة) ومن مذاهب مختلفة (سنة وشيعة ويزيدية)، ومن عشائر وقبائل مختلفة. والنظام كان يلعب على هذا الوتر ويحكم بسياسة «فرق تسد»، فإذا أراد أن يبطش بالشيعة قرب إليه السنة وإذا أراد أن يبطش بالأكراد قرب إليه العرب وإذا أراد أن يبطش بعشيرة قرب إليه أخرى.
وكان للمستبد جهاز مخابرات داخلي ضخم، وجهاز شرطة قمعي، وكان يحكم بمركزية لا مثيل لها في العالم، فقد جعل جميع الصلاحيات والمصالح في يده فلا وزير ولا مسئول ولا ضابط في الجيش أو الشرطة الإ يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، وشغل الجيش العراقي بحروب عبثية طويلة، استنفر لها جميع طاقات الشعب.
ولهذا لم يتمكن الشعب العراقي من التخلص من ذلك النظام على رغم المحاولات الكثيرة التي قام بها والتضحيات الكبيرة التي قدمها في هذا السبيل، فهل بعد هذا يلام ويوصف بالخيانة من رحب بمن يخلصه من ذلك النظام المستبد؟
إن الشعب العراقي الذي ذاق الأمرين من نظام صدام لابد أنه شعر بالامتنان لأميركا وحلفائها حين خلصتهم من ذلك النظام البغيض، ولكنها ارتكبت أخطاء كبيرة، من بينها حل الجيش العراقي، وترك الحدود العراقية مع دول الجوار مفتوحة من دون رقيب، ما سهل على آلاف المتسللين أن يدخلوا العراق ويعيثوا فيها فساداً. ومن أولئك المتسللين فئات متطرفة جاءت إلى العراق وأخذت تقتل وتحرق وتفجر وتهاجم وتخطف، بهدف خلق جو من الرعب واليأس لدى الشعب العراقي. وهناك من يؤيدهم من علماء دين وصحافيين ومحطات إذاعة وتلفزيون دأبت على بث أخبارهم وتبرير أعمالهم واستضافة الأشخاص الذين يؤيدونهم.
ظاهرة مقتدى الصدر
أما تقييمنا لظاهرة السيد مقتدى الصدر، ابن المجتهد المجاهد الشهيد السيدمحمد صادق الصدر - الأسرة الكريمة التي كثر فيها العلماء والمجاهدون - فهو لم يكن مرجعاً ولا فقيهاً، وإنما هو طالب علم وطالب زعامة أيضاً. وقد التف حوله الكثير من الفقراء والمعذبين والمسحوقين وشكلوا قوة مسلحة أطلقوا عليها اسم «جيش المهدي»، وهم يخوضون حروباً متفرقة ضد قوات الاحتلال وضد القوات العراقية وقد انضم إليهم الكثير من أتباع النظام السابق الذين لا يؤمنون بالمهدي ولا بجيش المهدي، وإنما لتتسع الاشتباكات في الأماكن المقدسة ويلحق بها أكثر ما يمكن من الدمار والخراب.
كاتب بحريني
العدد 731 - الأحد 05 سبتمبر 2004م الموافق 20 رجب 1425هـ