تعرضت اليمن أواخر العام 1982 إلى زلزال ضرب محافظة ذمار، وأودى بحياة آلاف المواطنين. وقام بتغطية هذه الكارثة الطبيعية الكاتب المعروف فهمي هويدي، يوم كان يعمل في مجلة «العربي» الكويتية، لينشر تحقيقاً حزيناً جداً على الطبيعة عن معاناة المواطنين في تلك الكارثة المروعة. ونشره تحت عنوان: «الرواجف هزّت كرسي الزيدية»، ومما لازلت أذكره بغلالةٍ من الحزن صورة رجلٍ يمني عجوزٍ يجلس في مسجدٍ مهدّمٍ عند المحراب، وهو يقرأ القرآن الكريم بين الركام.
ومن الطبيعي أنه في مثل هذه المحن تبرز إلى السطح بعض التأويلات المتحذلقة المتسلقة على رقاب الناس كالطحالب، يقدّم فيها أصحابها أنفسهم فلاسفةً لهذا الزمان المهروس، ولو سكتوا لكان «أستر» لجهلهم!
من بين تلك الأقوال التي نقلها هويدي أن «الزلزال كان عقاباً إلهياً للناس على ظلمهم». وانبرى هويدي ليجيب بـ «الضربة القاضية» قائلاً: «ان الله لو كان سيعاقب أحداً من سكان الأرض، لكان أهل ذمار هم آخر من سينالهم العقاب»، لأنهم ببساطة أصحاب دين والتزام، والدليل ذلك العجوز الذي يقرأ القرآن بعد أن فقد أحبته وأفراد عائلته.
تذكرت ذلك وأنا أشاهد صور الفقراء والعجزة وهم يتسلمون في عرضٍ مسرحي محزن، كوبونات الـ «35 ديناراً» التي تولت المحافظات توزيعها على بعض الأسر المتضرّرة من جرّاء انقطاع الكهرباء يوم الاثنين «الابيض»، حسب بعض الاجتهادات التي تتلبس بلبوس الدين، والمشبعة بفلافل شبه القارة الهندية، والهابطة علينا من فوق جبال الهملايا، تتنطع وتتفلسف على الناس، حتى يقف الخطيب ليقول للناس على منبر الجمعة ان انقطاع الكهرباء نعمة من نعم الله! وانه «اختبار إلهي»! وغير ذلك من الأفكار التي تدل على استغفال هؤلاء للمصلّين في بيوت الله أيام الجمعة.
في وقتٍ سابقٍ، كان المثقفون من أصحاب الياقات البيضاء والعقل والعقال الأسود، موضع انتقاد لترفعهم وتبجحهم ورفع أذيالهم عن هموم المجتمع ومشكلات الناس، أمّا اليوم فهناك من الخطباء «الفلاسفة» من يشاركهم في هذه التركيبة النفسية، والمنحى الفكري العجيب. فأنت لا تملك أمام هؤلاء المناطقة الجدد إلاّ أن تدعو لهم: «اللهم اقطع عن بيوتهم الكهرباء كل يوم وليلة»، ولأن الله لا يتدخل بقطع الكهرباء عن أحدٍ من شعب البحرين، فنتمنى من وزارة الكهرباء أن تبرمج عملية قطع التيار الكهربائي عن بيوتهم تحديداً، ليزدادوا شكراً وإيماناً، ويزداد ميزان حسناتهم في الآخرة، فيدخلوا الجنة من دون حساب!
فحيح الفلاسفة البوذيين
على أن هذا المنطق المقلوب، ليس أفضل حالاً من الرد الرسمي على ما تطرحه الصحافة من انتقادات على وضع الكهرباء في البحرين، نقول لهم: «انقطاع الكهرباء ألحق الأذى بسمعة الوطن كله»، فيقولون: «فحيح»! نقول: «في الخارج أصبح اسم البحرين في ذلك اليوم (الأبيض) علكة في أفواه الفضائيات حتى منتصف الليل»، فيقولون: «مشاريع طائفية»!. نقول: «هناك تجاوزات لابد من محاسبة المخطئين»، فيقولون: «بيانات رنّانة»! نقول: «الوزير اعترف بوجود مسئولين بالوزارة تنتهي المناقصات في جيوبهم وذلك أمرٌ واقع لا نستطيع تغييره»، فيقولون: «واي... حتى الكهرباء لم تسلم من التسييس»! نقول: «مشكلة عمرها 25 عاماً لابد من حلها لكي لا تهرب الاستثمارات»، فيقولون: «اشدَعْوَه! حتى في (إمريكه) تنقطع عنهم الكهرباء ويفسد الدجاج واللحوم في ثلاجاتهم ويموت أطفالهم ويهرب شعبهم إلى المكسيك ليستأجر الشقق المفروشة ولكنهم لا ينجرون وراء الأفكار الهدامة»! نقول: «وزراء الدول التي تحترم شعوبها، إذا حدثت مثل هذه الكوارث (غير الطبيعية) يستقيلون من أنفسهم، قبل أن يطالبهم أحد بالاستقالة ليفسحوا المجال لمن يصحّح الخطأ»، فيقولون: «لا يمكننا التملّص من تحمّل المسئولية أو الهرب من الواجب الوطني المقدس»!
على أننا في تاريخ هذا البلد لم نعرف إلاّ القليل من الوزراء الذين يحملون القلم ويدافعون عن «أنفسهم» ويكتبون الردود على هيئة مقالات وأعمدة. وهناك شائعاتٌ نريد التحقق منها، عن وجود بعض الصحافيين «المخضرمين» في بعض «الجرايد» يتسلمون راتباً شهرياً، هم من يقوم بكتابة الردود على الانتقادات، وهي ردودٌ أقرب ما تكون لـ «البيانات الرنانة» و «الخطب العصماء» المغلّفة برائحة المصالح الذاتية، وهم على أتم استعدادٍ لمناطحة الجدران من أجل الـ «500 دينار»!
مجلس النواب الذي عجز عن لملمة أطرافه وجمع أعضائه لمناقشة «وقائع اليوم الأبيض» الجميل، مدعوٌ هذه المرة للتحقيق في هذه المبالغ التي يتم تمريرها من تحت الطاولة، من موازنة الوزارات إلى هذا الطابور الخامس المجهول، فهذه أحد مسارب الفساد في هذا البلد، الذي يعاني من فيروسات الفساد «المالي» و«الاداري»، فضلاً عن مركز الأبحاث الخارجي الذي يتلقى من ميزانية الدولة 20 ألف دينار سنوياً، والكلّ لا يسمع ولا يرى! وإذا ارتفع صوتٌ حرٌ عُلّق على حبل مشنقة الطائفية البغيضة.
تذكّروا أن في هذا البلد، أصنافاً من الفلاسفة «البوذيين» جاهزون و«جاهزات»، لتقديم ماء القربان المقدس، لا نملك في الرد عليهم إلاّ الدعاء لهم: «اللهم فاقطع عنهم الكهرباء كل يومٍ وليلة، ليزدادوا إيماناً وتسليماً ويقيناً... ودنانير أيضاً»
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 731 - الأحد 05 سبتمبر 2004م الموافق 20 رجب 1425هـ