كيف يمكن أن نقرأ حالات التطرف التي يشهدها العالم وتنتقل من منطقة إلى أخرى تحت عناوين مختلفة وأسماء مجهولة وترتكب تلك الأفعال المشينة من دون تمييز؟

القراءات متعددة. فهناك فريق يعزل الحادث عن غيره ويتعاطى معه كوضع له آلياته الخاصة والمستقلة عن حوادث مشابهة وقعت سابقاً. وهناك فريق يربط أمنياً بين الحوادث ويرى أن تلك الافعال الشنيعة يخطط لها تنظيم واحد يقوده رجل واحد يدير اللعبة من كهف أو ملجأ عجزت كل التكنولوجيا الأميركية المتقدمة عن كشف مكان هذا المخبأ. وهناك فريق يربط سياسياً بين الحوادث ويرى أن تلك الأفعال المقرفة تفتقد التنظيم الواحد ولا تخضع لاستراتيجية مشتركة على رغم الاتفاق في الأهداف العامة. وهناك فريق ينظر إلى المسألة من أفق أوسع ويرى أن تلك الأفعال غير عفوية بل تقف وراء تحركاتها «أجهزة ثالثة» تخطط لكل حالة وتنتظر ردة الفعل عليها ثم تدفع نحو عمل آخر حتى تضطرب الأطراف بقصد تشويه سمعتها وإثارة غضب العالم وزيادة الكراهية ضدها. فالقصد هو تمرير مشروعات كبرى لا صلة لها بالكلام الذي يصدر عن تلك الجماعات التي لا يظهر اسمها سوى في «الإنترنت».

لاشك في أن المستفيد من كل هذه الأفعال المثيرة للاشمئزاز هي تلك «الأجهزة الثالثة» لأنها في النهاية الطرف الوحيد الذي يدرك خطورة مثل هذه الأعمال والنهاية المخطط لها التي تريد أن تصل إليها. فالأجهزة الثالثة (الطابور الخامس) تعتمد كثيراً على تخلف تلك المجموعات «السرية» وجنونها وهوسها وكذلك تستفيد كثيراً من «السرية» لتطلق مجموعة أنشطة وأسماء وبيانات على «الإنترنت» تعلن مسئوليتها عن تلك الجريمة أو غيرها باسم الإسلام والمسلمين. والمشكلة في أن المجموعات الغبية لا تستطيع نفي أو تأكيد مسئوليتها أو رفض مثل تلك الأعمال ظناً منها أن «مجموعة شقيقة» تعمل في مكان ما ولا تريد أن تكشف عن هويتها أو عنوانها خوفاً من افتضاح أمرها.

«الحروب السرية» دائماً تسيطر عليها الألغاز وتقودها الجاسوسية نحو المحرمات وتدخلها في عالم خاص وشديد التعقيد وتتحكم بها العقد النفسية والاوهام. ومثل هذه القوى من السهل على الهيئات الخاصة والمدربة أن تستدرجها للوقوع في أفخاخ نصبتها مستخدمة إياها بالواسطة لتمرير أو تنفيذ بعض العمليات التي تخدم مصالحها كما حصل مراراً في العراق أو روسيا أو بلدان أخرى.

«الحروب السرية» تشبه كثيراً «عالم الجاسوسية» الذي تقوده أجهزة منظمة ومدربة على الاغتيال والخطف وسرقة المعلومات أو الاختراق أو التفجير أو افتعال الأزمات لضرب الخصوم ببعضهم، ثم تنسحب المجموعات السرية تاركة الساحة مفتوحة على مشهد آخر تخوض معاركه قوى مختلفة استدرجت إلى الخنادق من دون علم منها وبتخطيط من جهات مجهولة وغريبة.

«عالم الجاسوسية» يعتمد أسلوب سياسة الدفع، وهو موجود ولا يستمر من دون تمويل وتخطيط وتشجيع من قوى صاحبة مصلحة في إبقاء العالم تحت ضغوط نفسية وقلق سياسي وتوتر أمني خدمة لأغراض كبيرة تستفيد منها في النهاية شركات المال والطاقة والتصنيع الحربي. هذا «العالم» الذي قيل عنه الكثير إبان «الحرب الباردة» لم يتوقف نشاطه بعد انتهاء تلك الحرب، بل انتقل من عدو قديم إلى عدو جديد واخترع «مجموعات» تزرع الفتن والشرور لتبرير وجوده ودوره.

«الحرب السرية» إذاً هي وسيلة من وسائل «عالم الجاسوسية». والفارق بينهما أن الطرف الأول مهووس وعديم التفكير ولا يخطط، بينما الطرف الثاني يملك مفاتيح اللعبة ويدير الآلات نحو الاتجاهات التي يريدها لتخدم مصالحه القريبة والبعيدة.

مسألة الاختراقات مهمة لمعرفة الوجه الآخر لحالات التطرف. فالتطرف عموماً موضوع اجتماعي يظهر كردة فعل على سياسات دولية (تدخلية) متطرفة أو عن قمع الدولة المحلي وتدخلها القسري في حياة الفرد وانشغالاته اليومية، ولكنه أيضاً يتمتع باستقلال ذاتي يعتمد على خصوصيات تبتكر آليات داخلية وتنسج مجموعة أفكار معقدة كشبكة العنكبوت تلجأ إلى «السرية» خوفاً ثم تعود لتبدأ سياسة «التخويف» لطرد خوفها الداخلي.

إنه عالم الخوف. والخائف دائماً يميل إلى اعتماد «السرية» لطرد المخاوف. هذا العالم المرتعد يشكل دائماً تربة صالحة لنشاط «عالم الجاسوسية»، إذ تستفيد منه القوى المجهزة والمنظمة والممولة لتمرير مشروعها السياسي من خلال «الحروب السرية».

هناك قراءات متعددة لحالات التطرف، ولكنها كلها تصب في حقل من النظريات والفرضيات والتكهنات. وهذا كله يؤكد من جديد ضرورة الانتباه عند كيل التهم والاستعجال في تصويب الطلقات ضد هدف واحد ومتهم واحد