عندما كان مسلم بن عقيل رسول الإمام الحسين بن علي عليه السلام إلى أهل العراق مختفياً في بيت هاني بن عروة أحد وجهاء الكوفة المعروفين، دخل البيت فجأة قائد جيش معسكر يزيد وهو يبحث عن رسل الحسين فما كان من هاني بن عروة، وهو المتعاطف مع جبهة الحسين على رغم علاقته الاجتماعية «الحيادية» إلا أن أشار على مسلم باغتنام الفرصة الذهبية للإجهاز على خصمه قبل أن يُجهز عليه في ساحة المعركة فيما بعد، لكن رسول الحسين رفض هذا العرض المغري على رغم سهولته بالقول الشهير الذي ذهب مثلاً فيما بعد استشهاد مسلم: «الإيمانُ قيد الفتك»، أي أن الإيمان يُقيد المؤمن ويمنعه من الفتك بأعدائه وخصومه إلا في ظروف معركة متكافئة.
أما الاغتيال والغدر والقتل وعمليات التصفية في غرف الظلام وبكواتم الصوت أو بالسيوف والبنادق الرشاشة أو صواريخ الكروز أو قنابل الـ F61 أو رشاشات الأباتشي، لأناس غير متهيئين لمعركة أو منخرطين فيها، حتى لو كانوا من قادة الأعداء، إنما هو عمل دنيء لا تجيزه قيود الإيمان وشروطه.
والآن، وإذا كان مثل هذا العمل لا يجوز حتى مع الأعداء والخصوم المباشرين والعلنيين، فكيف نجوّزه أو نعتبره مجازاً مع مدنيين أبرياء لا علاقة مباشرة لهم بالحرب؟! وما علاقة ذلك بالإيمان فضلاً عن علاقته بالدين الإسلامي ولاسيما بالمؤمنين والملتزمين به أشد الالتزام؟!
إن كل عمليات الاختطاف والترهيب والإرعاب التي جرت في العراق ضد أناس من النوع الآنف الذكر مُدانة ولا علاقة لها بالإسلام والمسلمين لا من قريب ولا من بعيد، فضلاً عن علاقتها بالمؤمنين والمقاومين!
وبتحديد أكثر وبصورة مضاعفة ينطبق مثل هذا القول على عملية اختطاف الصحافيين الفرنسيين على يد ما يسمى زوراً وبهتاناً «الجيش الإسلامي...!».
لكننا في المقابل يجب أن نعترف ونقر وننتبه إلى أنه عمل منظم وواعٍ جداً لما يريد، على عكس ما ذهب إليه الكثير من المحللين والمراقبين الذين أعزهم وأقدّرهم وفي طليعتهم الزميل الكبير عبدالوهاب بدر خان في صحيفة «الحياة» عندما وصفوه «بالعنف الأعمى».
إنه ليس أعمى بالتأكيد، وذلك للأسباب الآتية، بحسب تقديري:
1- إنه يستهدف أول ما يستهدف خلط الأوراق في لعبة القتل المنظم الجارية في العراق على قدم وساق منذ دخلت إليه أنواع القوات الغازية وعصابات المجندين والمجندات من المرتزقة وفي مقدمتها مرتزقة المخابرات الإسرائيلية. والمهمة الأساسية لهذا الخلط تشويه المقاومة وإخراجها نهائياً من معادلة رسم مستقبل العراق الجديد.
2- إنه يستهدف دفع المقاومة الواقعية والحقيقية للاحتلال إلى الدفاع السلبي، ووضعها في الزاوية الحرجة من باب «حك الحديد بالحديد»، كما يقول المثل العربي.
3- إنه يستهدف محاصرة العراق الشعبي المستقل والحر وعزله عن التعاطف الإقليمي والدولي وإظهاره بمظهر الرجل المتوحش والبربري الذي لا يملك أية استراتيجية واضحة لمستقبله، وبالتالي ليس أمامه إلا التعويل على «محرريه» القادمين من وراء البحار مع «جيش» المتعلمين والمدربين جيداً لمهمة «التحرير» الجليلة!
لاحظ أن هذا «الجيش الإسلامي» هو الذي اختطف القنصل الإيراني مثلاً عشية معركة النجف المشبوهة وإعلان إيران العدو الأول للعراق! وهو الذي اختطف الصحافيين الفرنسيين على رغم مواقف فرنسا المعروفة بمعارضتها للحرب الملعونة ومواقف الصحافيين المشهودة في حياديتها، بل وفي تعاطفها مع قضايا العرب وقضية الحرية والاستقلال في العراق.
ولاحظ أيضاً كيف انبرت أقلام أصدقاء الحرب والمحافظين الجدد من طلاب الحروب وصانعي كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، والمطالبين بضرب مفاعل بوشهر النووي كما ضرب مفاعل تموز العراقي خياراً إسرائيلياً صريحاً... كيف انبرت هذه الأقلام لتنبيه فرنسا وتذكيرها و«تأديبها» على ما اقترفته من «خطيئة» الاعتقاد بأن ابتعادها عن المشاركة في الحرب سيجنبها مخاطر الإرهاب!
4- إنه يستهدف فيما يستهدف إعطاء زخم إضافي لحملة بوش الانتخابية عشية مؤتمر حزبه الجمهوري، وهو بحاجة ماسة إلى كسب معركته ضد منافسه الديمقراطي الذي ينافسه على قاعدة السياسات الخاطئة نفسها، عدا الطفيف من الأمور وفي طليعتها إشراك الحلفاء الأوروبيين في تداعيات الحرب الملعونة وتحميلهم كلف استمرارها بأشكال أخرى!
إنه غيض من فيض مما تحمله تلك الحرب الخفية من أهداف وغايات دنيئة بدأت بتهويل وجود «القاعدة» في العراق ومرت بقصة البطل الخرافي المعروف بالزرقاوي، والتي وصلت اليوم إلى محطة «الجيش الإسلامي...»، ولا ندري إلى أين هي سائرة في الأيام والأسابيع المتبقية على معركة بوش الانتخابية.
في نهاية الثمانينات حصل هجوم بالقنابل والأسلحة الرشاشة على السفارة الإسرائيلية والمركز اليهودي في لندن اتُهم وقتها بالعملية فلسطينيان اثنان من أنصار حركة فتح أو أعضائها وهما سمر علمي وزياد البطمة، واعتقل المتهمان ولايزالان قيد الاعتقال بالجرم المشهود! أي بحيازتهما أسلحة ومتفجرات و... لكن الزمن كشف فيما بعد أن وراء العملية شخص ثالث مختفٍ يهودي مرتبط بالمخابرات الإسرائيلية تبحث عنه المخابرات البريطانية من دون جدوى كشفه رجل مخابرات بريطاني سابق، لكنه فشل في تجميع خيوط القضية كافة حتى الآن، لكن المهم في القضية أن المجرم الحقيقي طليق حر الآن، فيما المتهمان زوراً وبهتاناً لايزالان يقبعان في السجن والهدف القاضي بتشويه المقاومة الفلسطينية قد تحقق. وإنه تم خلط الأوراق على الساحة الأوروبية وقتها بأحسن وجه!
غير أن نقطة أخرى في غاية الأهمية لابد من الإشارة إليها في هذا السياق وهي ما أشار إليها أيضاً الزميل بدر خان في تعليقه على حادث اختطاف الفرنسيين وهي «مسئولية واضعي الخطط الحربية «النظيفة» عن خلقهم وإثارتهم لهذه الوحشية والبربرية واللاإنسانية وكيفية مُساهمتهم في صنع الإرهاب».
وفي هذا السياق أود أيضاً التعليق على ما ذهب إليه عبدالوهاب لأقول ولكن متوافقاً معه هذه المرة: إن طلاب الحروب والغزوات والعدوان على الدول والتدخل في شئونها الداخلية تحت أية حجة كانت حتى وإن بدت في ظاهرها دعوة إلى الإصلاح ونشر الديمقراطية أو التخلص من الطغاة، لن يستطيعوا أن يُغيّروا من واقع حالهم فهم طلاب حروب وصانعو إرهاب وناشرو ثقافة الفتك والاغتيالات والخطف والخطف الماد، وهي ثقافة بريء منها ديننا وبريئة منها عقيدتنا.
إنهم يستهدفون مدرسة الاعتدال كل يوم، في الفلوجة كما في النجف، كما في قصة الصحافيين الفرنسيين
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 730 - السبت 04 سبتمبر 2004م الموافق 19 رجب 1425هـ