هل يمكن الربط بين خطف الصحافيين الفرنسيين في العراق من قبل جهة مجهولة تدّعي الإسلام، وبين قتل جهة مجهولة أخرى (تدّعي الإسلام أيضاً) 12 نيبالياً في العراق، وبين اقتحام جهة مجهولة أخرى (تقول إنها تنتسب إلى الإسلام) مدرسة للأطفال في أوسيتيا الشمالية في جنوب روسيا؟
«المنطق الصغير» يقول لا. فما دخل فرنسا بنيبال بأوسيتيا الروسية. فكل حادث له خصوصية ويتمتع بشيء من الاستقلال عن الآخر. كذلك يضيف «المنطق الصغير» أن مطالب كل فئة (جهة) تختلف عن الأخرى. فالأولى تطالب فرنسا بالتراجع عن قانون حظر الحجاب (العنصري والسخيف) الذي بدأ تطبيقه ضد الطالبات المسلمات في المدارس الرسمية. والثانية تحذر العمال الأجانب من القدوم إلى بلاد الرافدين والعمل في مؤسسات لها صلة بالاحتلال. والثالثة تطالب بانسحاب الجيش الروسي من الشيشان واطلاق سراح المعتقلين في جمهورية انغوشيا.
«المنطق الصغير» بحسب قول الفلسفة القديمة يفصل بين هذه الحوادث ولا يرى علاقة تربط بين مطالب متنافرة رفعتها جهات مجهولة تفتقر إلى الوعي السياسي ولا تستند إلى استراتيجية واضحة. فكل حادث له خصوصيته وآلياته الداخلية وليس هناك من جامع مشترك يساعد على طرح فرضية الربط بين أعمال متباعدة وغير منسجمة في ابعادها وأهدافها.
«المنطق الصغير» يقول إن المسألة الوحيدة المشتركة بين تلك الأفعال انها حصلت في فترة زمنية متقاربة وتدافعت في سياق مشترك، اثارت شبهات ولكنها لم تغير القناعات الثابتة وهي ان كل طرف «يغني على ليلاه». فالمنطق «الصغير» يؤكد أن ليس هناك من مؤشر يرجح نظرية الربط ين «الجرائم الثلاث» سوى انها كلها خدمت السياسة الأميركية وعززت نظرية الرئيس جورج بوش التي تؤكد أولوية الأمن وضرورة الاستمرار في الحرب الدولية ضد ما يسميه بـ «الإرهاب». وعدا ذلك لا توجد معلومات تعارض هذه القناعة وهي ان كل حادثة لها خصوصيتها ولا صلة لها بقبلها أو بعدها. صحيح أن العمليات الثلاث انتجت حالات هلع فتدافعت القوى الكبرى إلى بعضها بعضاً تطالب الولايات المتحدة باللجوء السياسي وتتصل بها لتأمين الحماية الأمنية والمساعدة في مكافحة «الإرهاب» وابداء الرغبة في المشاركة في الحروب الأميركية التي يقودها بوش... إلا أن هذه النظرية (نظرية الدومينو) التي تقوم على مبدأ الدفعة الأولى ومن ثم تتدحرج الاحجار واحدة بعد الأخرى عن طريق التدافع الآلي لا ترجح نظرية الترابط بين العمليات الثلاث. فكل واحدة مستقلة عن الأخرى وإن حصلت كلها خلال فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز 72 ساعة. فالمنطق «الصغير» يقول إنها حالات شاذة قامت بها هيئات سرية إرهابية لا تفكر بالسياسة وعقلها صغير لا يتجاوز تفكيره الامتار القليلة.
«المنطق الصغير» يقول لا. ولكن إذا نظرنا إلى المسألة من «المنطق الكبير» كما تقول الفلسفة القديمة أيضاً فنجد ان هناك ما يمكن تسميته المشترك من دون ان تكون هناك علاقة مترابطة بين هذه الجهة أو تلك.
«المنطق الكبير» دائماً يبحث عن المشترك حتى لو لم تكن هناك سلسلة حلقات مترابطة تجمع الحادث الأول بالثاني والثاني بالثالث. فالحوادث منفصلة ولكل حال خصوصيتها وآلياتها المستقلة ولكنها في النهاية انتجت وحدة مشتركة وانتهت إلى سلسلة تراجعات وتفاهمات وسياقات دولية فتحت السدود أمام مجاري المياه التي انسدت في فترة التحضير للحرب على العراق واختلاف الولايات المتحدة مع «دول الضد» بشأن الحرب التي خالفت القوانين والأعراف والشرعية الدولية واخترقت ما يسمى المفهوم السيادي للدول الصغيرة.
«المنطق الكبير» لا يربط دائماً بين الحوادث ولكنه على الأقل يبحث عن «المشترك» بين نتائج الحوادث حتى لو لم تكن هناك صلات أو اتصالات تربط بين الحادث ألف (أ) والحادث الباء (ب) والحادث التاء (ت). إلا أن (أ) و(ب) و(ت) قادت الدول الكبرى التي كانت مختلفة على تفسير القوانين الدولية إلى التفاهم على الإجراءات الواجب اتخاذها لاحتواء التجاوزات والاختراقات الجارية بشأنها.
«المنطق الكبير» يقول نعم، ويفترض وجود صلات بعيدة وليست قريبة بين الأفعال الشنيعة الثلاثة التي وقعت في وقت متقارب واسقطت جبال الجليد التي تفصل بين فرنسا وألمانيا وروسيا والصين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى في وقت كان الحزب الجمهوري يستعد لتجديد اختياره للرئيس بوش كقائد للقوات المسلحة وكبطل قومي يقود حربه «العادلة» ضد الإرهاب. فواشنطن في هذا المعنى (المنطق الكبير) غيرت المعادلة لمصلحتها وجذبت دول الضد إلى جانبها.
إنه منطق. والمنطق مجرد فرضية تحتاج إلى المزيد من المعلومات. والمعلومات يملكها طرف وحيد في المعادلة الدولية الراهنة. وهذا الطرف هو الولايات المتحدة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 730 - السبت 04 سبتمبر 2004م الموافق 19 رجب 1425هـ