الديمقراطية بمعناها السياسي المتداول في زماننا تعني - في جانب من جوانبها - وجود نخب سياسية منظمة بصورة حرفية فائقة، ووجود جمهور يختار من بين هذه النخب ما يتناسب وطموحه ومبادئه. ويتطلب الأمر القبول بقواعد اللعبة السياسية، تماماً كما تقبل الفرق الرياضية ان تبرز أمام بعضها بعضاً ضمن ضوابط متفق عليها. وللجمهور أن يؤيد هذا الفريق أو ذاك، والفريق الفائز يحوز الكأس بجدارة، والفريق المهزوم يراجع نفسه ويعيد تدريب افراده لينافس مرة أخرى... وفي النهاية هناك أصول للعبة وهناك حكام يحكمون بين اللاعبين وهناك جمهور يؤيد من يؤيد ولا يؤيد من لا يود تأييده.
العملية السياسية هي تنافس بين السياسيين لطرح رؤاهم للجمهور، وقدرة هذا الفريق السياسي أو ذاك على كسب الجمهور لها شروطها وظروفها، ولذلك فإن الناجح سياسياً هو الذي يستطيع ممارسة دوره بكفاءة من دون محاولات غير لائقة ضد الآخرين. وهذا الحديث ينطبق على كل حال من الأحوال السياسية، فعندما حاول الجمهوريون الأميركان التجسس على الحزب الديمقراطي في منتصف السبعينات كانت «فضيحة ووتر غيت» التي مازالت تلاحق من قام بها لأنه أصبح واضحاً آنذاك أن الرئيس الأميركي نيكسون عجز عن منافسة الديمقراطيين فرخص بأساليب لا تليق بشخص يدعي تسلمه المنصب عبر الانتخاب.
وفي منتصف القرن التاسع عشر كانت أوروبا وأميركا تعيشان حالاً سياسية أقل تنظيماً، ولذلك نشأت فكرة الأحزاب التي ساهمت في تنظيم الصفوف على أساس أصول متفق عليها. فالاشتراكيون كانوا الأكثرية ولكنهم وبسبب فوضويتهم آنذاك لم يستطيعوا الحصول على ما يريدونه على رغم أن قاعدتهم العمالية كانت عريضة جداً. وكذلك الحال مع القوى اليمينية التي كانت تمثل مواقع النفوذ ولكن من دون شرعية واضحة، ولذلك فقد كانت الأنظمة السياسية تهتز لانعدام شرعيتها.
وعليه فقد وافق قسم كبير من الاشتراكيين على الدخول في اللعبة السياسية وأسسوا حزب العمال في بريطانيا، كما أسسوا الاحزاب الاشتراكية في الدول الأوروبية الأخرى. وكذلك وافق اليمينيون على الدخول في اللعبة وأسسوا الاحزاب المسيحية الديمقراطية، ونظم الليبراليون أنفسهم في احزاب تتوسط الاشتراكيين والمسيحيين الديمقراطيين. ودخل الجميع في إطار العملية التي تتشكل من نخب متخصصة في التمثيل السياسي للآخرين، وطرحوا أنفسهم للجماهير، والجماهير كان لها الدور في تغليب هذا على ذاك.
كما أن من أصول اللعبة السياسية أن الحزب المنتصر لا يسحق الآخرين بل يسمح بالمعارضة والمنافسة، ويفسح المجال لهذه الاحزاب أن تمارس أدواراً في الحياة العامة. فحزب الاحرار البريطاني لم يصل إلى الحكم خلال المئة عام الأخيرة تقريبا (منذ ظهور حزب العمال كقوة منافسة لحزب المحافظين)، إلا أن هذا الحزب يسيطر على مئات البلديات وهو جزء من التركيبة السياسية وله دور مؤثر في الكثير من الشئون العامة.
وما دمنا نتحدث عن الجمعيات السياسية وحقها في التحول إلى أحزاب مماثلة لما هو موجود في البلدان المتقدمة، فإن علينا أن نحدد أصول العمل السياسي وضوابطه، وأن نقبل المنافسة الحرة، وان يُترك الناس ليختاروا من يشاؤون اختياره لتمثيلهم في هذه الفترة أو تلك
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 730 - السبت 04 سبتمبر 2004م الموافق 19 رجب 1425هـ