وقع ما كان بالإمكان تجنبه أو المناورة عليه. فمجلس الأمن الدولي اجتمع بسرعة غير متوقعة وأصدر قراره غير الإلزامي بشأن الملف اللبناني بغالبية تسعة أصوات وامتنعت ست دول عن التصويت. القرار السريع واضح في فقراته على رغم التعديلات التي أدخلت عليه في الساعات الأخيرة لتمريره. فالتعديلات قطعت الطريق على روسيا والصين حتى لا تتحركا وتستخدما حق النقض (الفيتو). حتى تلك الدول (الأعضاء مؤقتاً) في مجلس الأمن كالجزائر وباكستان وغيرهما امتنعت عن التصويت.
قرار مجلس الأمن الرقم 1559 صدر الآن ولم يعد بالإمكان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وأمام الأمين العام مهلة 30 يوماً لتقديم تقريره بشأن التزام الأطراف المعنية ببنوده وبعدها ستتصرف كل دولة وفق مصالحها في حال وجدت أن التطورات الميدانية في لبنان لا تسير وفق تفسيرها الخاص للفقرات الغامضة التي ينص عليها القرار الدولي.
فرنسا أخذت حصتها من القرار وهي إعادتها إلى المشهد الدولي في منطقة المشرق العربي. والولايات المتحدة أخذت ما تريده وهو إيجاد الغطاء الدولي الذي يعطيها شرعية لإعادة تحريك «قانون تحرير سورية» الذي تبناه الكونغرس الأميركي. وبريطانيا أخذت حصتها وهي إعادة التفاهم إلى الاتحاد الأوروبي بعد اضطراب العلاقات التي أحدثتها الحرب على العراق. فالقرار الدولي خطير وهو البيان رقم واحد ضد سورية.
القرار إذاً كبير في اشاراته ولبنان هو الذريعة (الممر) الذي اختارته الدول الكبرى لإعادة تصحيح ما اضطرب من علاقات في فترة التحضير الأميركي لغزو العراق. والكلام الذي قيل عن أن «لبنان غير الكويت» هو صحيح في فترة تسعينات القرن الماضي إلا أن الأمور لا تبقى ثابتة وهناك تحولات خطيرة حصلت بعد وصول الكتلة الايديولوجية الشريرة إلى موقع القرار في واشنطن. فهذه الكتلة لا تأخذ كثيراً في الاعتبار قواعد اللعبة الدولية في التعامل مع سيادة الدول. وأحياناً تدفع هذه الكتلة العلاقات الدولية نحو تجاوز تلك الصيغ التي أقرت بعد الحرب العالمية الثانية واحترمت خلال فترة «الحرب الباردة».
ما حصل في العراق قبل حوالي السنتين غيّر الكثير من قواعد اللعبة والولايات المتحدة التي ارتكبت الكبيرة في العام 2003 مخالفة بذلك الشرعية الدولية وكل مصالح الدول الكبرى المعترضة أصلاً على صيغة الحرب لم تعد تكترث كثيراً لارتكاب الصغائر والاطاحة بكل ما يمت بصلة إلى الدبلوماسية وتوازن المصالح.
لبنان صحيح إنه دولة غير نفطية وليس مهماً في معادلة النفط مقابل الأمن. إلا أن هذا البلد الصغير يتمتع بخاصية جغرافية مهمة في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي وهذه مسألة أمنية تحتل موقعاً استثنائياً في سياق الاستعدادات الجاري ترسيمها لتغيير ما يسمى خريطة «الشرق الأوسط» وتوزيع المغانم على أصحاب المصلحة في التحولات.
أميركا بحاجة إلى الدور السوري «كعامل استقرار في الشرق الأوسط والعراق». هذا صحيح أيضاً ولكنه ليس دقيقاً أو على الأقل تقلصت الحاجة الأميركية إليه بعد احتلال العراق وتحول واشنطن من طرف يدعي أنه «راعي السلام» إلى راع للحرب. فشروط اللعبة تغيرت كذلك قواعدها. فأميركا في تسعينات القرن الماضي كانت تبحث عن استقرار المنطقة ولكنها الآن تقود المنطقة نحو الفوضى وتعبث في استقرارها.
أميركا بعد غزو العراق تخطط وتدفع المنطقة نحو الفوضى السياسية والاضطراب الأمني. فالاستراتيجية تغيرت بعد الاحتلال وبالتالي تغيرت معها الكثير من الشروط واختلفت بذلك قواعد اللعبة. فأميركا فعلاً تريد - كما قال وزير الإعلام السوري أحمد الحسن في تصريح خاص لصحيفة «الحياة» نشرته في عدد الخميس الصادر في 2 سبتمبر/ أيلول الجاري - تحويل سورية إلى «شرطي الشرق الأوسط». ويتلخص هذا الدور كما قال الوزير في تصريحه «بنزع سلاح حزب الله وضبط الوضع في العراق ولعب دور معين في الموضوع الفلسطيني».
هذا الكلام قيل قبل يوم من انعقاد مجلس الأمن وموافقته على صيغة البيان/ القرار الذي يعطي مهلة 30 يوماً لسورية لتنفيذ ما نصت عليه البنود والفقرات.
والسؤال: هل كان بالإمكان تجنب صدور هذا البيان/ القرار أو المناورة عليه؟ سورية ومختلف الفئات المعنية بالشأن اللبناني تقول «لا» لأن التحرك الدولي أكبر بكثير من المادة 49 والتمديد للرئيس الحالي. لذلك وجب التمديد لأنه الخيار الأفضل لسد الثغرات وضمان علاقات سوية ومستقرة في إطار معركة كبرى تخطط لها «إسرائيل» في حال نضجت الظروف الدولية التي تسمح بذلك.
الفئات الحريصة على سورية ومصالحها وعلاقاتها الاستراتيجية مع لبنان تقول «نعم». كان بالإمكان تجنب التدويل أو على الأقل المناورة عليه لكسب الوقت، لو أحسن الانتباه إلى أن قواعد اللعبة الأميركية تغيرت في المنطقة بعد احتلال العراق. فواشنطن الآن تقود آلة الحرب ولا تريد السلام
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 729 - الجمعة 03 سبتمبر 2004م الموافق 18 رجب 1425هـ