يقول خبراء إن بروز اليمين الديني البروتستانتي في الولايات المتحدة كحركة «أصولية مسيحية» تقوم بممارسة نفوذ سياسي وتلعب دورا رئيسيا في تأييد الولايات المتحدة لحكومة تكتل الليكود المتطرف في الكيان الصهيوني، هو جزء من استراتيجية محسوبة من أبرز الأعضاء اليمينيين في الحزب الجمهوري الأميركي على رغم أنهم ليسوا مسيحيين أصوليين، ولكنهم اعترفوا بالحاجة إلى حشد دعم هذا القطاع الرئيسي من الأميركيين من أجل تحقيق قوة سياسية.
وقد لاحظ مراقبون أن السعي إلى كسب اليمين المسيحي الأميركي لا يقتصر في الحملة الانتخابية الحالية على الحزب الجمهوري ومرشحه جورج بوش، بل إن المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية جون كيري يتحدث عن إيمانه الديني (كاثوليكي) وتتابع زياراته إلى مختلف الكنائس، والحديث عن دور الرب في حياته. كما يواظب على حضور قداس الأحد في الكنائس الكاثوليكية التي يشكل أتباعها ربع عدد سكان الولايات المتحدة.
ومن الناحية التقليدية فإن البروتستانت الأصوليين الأميركيين لم يكونوا نشطين بصورة خاصة في السياسات القومية والتي كان ينظر إليها على أنها عالمية وفاسدة. وقد تغير ذلك في أواخر السبعينات من القرن الماضي كجزء من جهد محسوب من اليمين المحافظ في الحزب الجمهوري الذي اعترف بأنه طالما أن الحزب مرتبط بصورة رئيسية بسياسات عسكرية في الخارج وبمقترحات اقتصادية تحبذ الأغنياء، فإنه سيظل حزب أقلية.
ويذكر أن الحزب الجمهوري فاز خلال العقود الخمسة الماضية بأربعة انتخابات رئاسية من مجموع 12، وسيطر على الكونغرس مرتين فقط من أصل 24 دورة.
وقد تمكن استراتيجيو الحزب الجمهوري من إدخال الملايين من المسيحيين الأصوليين - الذين لم يكونوا ليميلوا إلى التصويت للجمهوريين نتيجة معدل دخولهم المتدنية - إلى داخل حزبهم، وذلك من خلال تعبئة الزعماء اليمينيين الدينيين وتبني مواقف محافظة بشأن قضايا اجتماعية مهمة مثل حقوق المرأة والإجهاض وتعليم الجنس والشذوذ الجنسي.
وقد شجع الحزب الجمهوري أجندة سياسية للجناح اليميني من خلال إذاعات وتلفزيونات ومنابر منظمات مثل «ذي مورال ماجوريتي» Moral Majority أي الأكثرية الأخلاقية، و«ذي كريستيان كواليشن» The Christian Coalitionأي التحالف المسيحي، الذي قام بوش في بداية حملته الانتخابية السابقة بتعيين رئيسه السابق رالف ريد كبيراً لمخططي حملته الاستراتيجيين.
ومنذ أن استولى الجمهوريون على هذه «الدائرة الانتخابية» ذات الأهمية الحيوية كسبوا أربعة من مجموع ستة انتخابات رئاسية، وسيطروا على مجلس الشيوخ سبع دورات من مجموع 12 دورة. وسيطروا على مجلس النواب طيلة العقد الماضي.
ويشكل اليمين المسيحي نحو واحد من كل سبعة ناخبين أميركيين. ويقرر جدول أعمال الحزب الجمهوري في نحو نصف الولايات وخصوصاً في الجنوب والغرب الأوسط. وقال أحد كبار الموظفين الجمهوريين «إن المحافظين المسيحيين أثبتوا أنهم القاعدة السياسية لمعظم الجمهوريين وكثير من هؤلاء الرجال وخصوصاً الزعامة هم مؤمنون حقيقيون بذلك، وكذلك دوائرهم الانتخابية».
حركة المسيحيين الأصوليين تحتل المناصب
ويقول القسيس باري لين منAmericans United for Separation of Church and State (أميركيون متحدون من أجل الفصل بين الكنيسة والدولة) «إن الأخبار الجيدة هي أن التحالف المسيحي أخذ ينهار بصورة أصولية والأخبار السيئة هي أن الناس الذين أداروا هذا التحالف كلهم في الحكومة»، مشيرا إلى أنه عندما يذهب إلى وزارة العدل (الأميركية) فإنه يشاهد باستمرار مدعين عامين كانوا موظفين في السابق لدى الواعظ اليميني الأصولي البارز بات روبرتسون.
وكما أشارت صحيفة «واشنطن بوست» فإنه «لأول مرة منذ أن أصبح المحافظون الدينيون حركة سياسية عصرية، فإن رئيس الولايات المتحدة أصبح الزعيم الفعلي للحركة». وقد أشار الزعيم السابق للتحالف المسيحي رالف ريد إلى ذلك باعتباره «نصرا» بضحكة ناعمة قائلا «إنك لم تعد تلقي حجارة على المبنى، بل إنك في المبنى» مضيفا «إن الله عرف أن جورج بوش لديه المقدرة على القيادة بمثل هذه الطريقة الطاغية».
وقد أيد الليبراليون الأميركيون منذ فترة طويلة «إسرائيل» كـ «ملاذ لليهود المضطهدين» وأيدوا المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة (بسبب اليهود الأميركيين). ومن الناحية التاريخية، فإن هؤلاء الليبراليين مدعومين بالنفوذ السياسي لليهود الصهاينة داخل الحزب الديمقراطي، دفعوا الديمقراطيين إلى تبني خط متشدد تجاه الفلسطينيين والعرب. وعلى رغم أن الجمهوريين يتخذون مواقف الصقور أكثر في معظم قضايا السياسة الخارجية فإنهم اتخذوا من الناحية التقليدية موقفا أكثر اعتدالا نوعا ما، ويعود ذلك جزئيا إلى روابط الحزب مع صناعة النفط التي ترتبط بالدول العربية المصدرة للنفط، وفي جزء آخر لأن الحزب الجمهوري كان يخشى أن يؤدي مزيد من الدعم لـ «إسرائيل» بالوطنيين العرب إلى الوقوف إلى جانب السوفيات (سابقا) أو في السنوات الأخيرة إلى جانب الاتجاهات الإسلامية الوطنية المناهضة للولايات المتحدة، ولكن هذا التحالف تغير بفضل نفوذ اليمين المسيحي.
وعلى رغم أن تأييد المسيحيين الأميركيين لـ «إسرائيل» يعود إلى سنوات كثيرة مضت فإنه أصبح أخيراً فقط واحدا من أهم القضايا الرئيسية للحركة. وكنتيجة للاهتمام الأصولي المسيحي المتجدد في «إسرائيل» والاعتراف بنفوذ الحركة السياسي، فقد أصبح اليهود الأميركيون أقل ترددا لتشكيل فريق مع اليمين المسيحي. وزعيم الأصوليين المسيحيين غاري بوير - على سبيل المثال - يتلقى الآن دعوات منتظمة لتوجيه خطابات في مؤتمرات المنظمات اليهودية الرئيسية والتي كان يمكن أن تكون مترددة تجاه الحركة قبل مجيء حكومة بوش.
وهذه تعتبر بصورة جزئية ظاهرة ديمغرافية، فاليهود يشكلون أقل من 3 في المئة من سكان الولايات المتحدة، وبالكاد أن يكون نصفهم مؤيدا لحكومة شارون الإسرائيلية الحالية. ويعترف الإسرائيليون أيضا بالنفوذ السياسي لليمين المسيحي، فمنذ العام 2001 اجتمع بوير والكثير من أعضاء الحكومة الإسرائيلية مع شارون نفسه. وقال رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق بنيامين نتينياهو إنه «ليس لنا أصدقاء كبار وحلفاء أكثر من الجناح اليميني للمسيحيين الأميركيين».
وقد اعتادت الحكومات الأميركية الجمهورية أن تمتلك القدرة على مقاومة الضغط من مجموعات اللوبي الصهيوني عندما كان يعتبر ذلك مهما للمصالح الأميركية، فعلى سبيل المثال، ضغطت حكومة أيزنهاور على «إسرائيل» أثناء العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، وباعت حكومة ريغان السعودية في العام 1981 طائرات أميركية مزودة بنظام أواكس للإنذار المبكر. كما أن حكومة جورج بوش الأب أجلت القروض الائتمانية لـ «إسرائيل» بمقدار 10 مليارات دولار انتظارا لنتيجة الانتخابات الإسرائيلية في العام 1992، ولكن مع ازدياد نفوذ اليمين المسيحي فإن مثل هذا الانفصال الأميركي عن السياسة الإسرائيلية لم يعد سهلا. فلأول مرة يصبح للحزب الجمهوري دائرة انتخابية مهمة خاصة به موالية لـ «إسرائيل» لا يستطيع تجاهلها.
فطبقا لمصادر كثيرة مطلعة فإن مسئولين كباراً في البيت الأبيض في عهد حكومة بوش الابن، بمن فيهم مدير الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، إليوت أبرامز يعقدون اجتماعات منتظمة وبعضها في الغالب مطولة مع ممثلين عن اليمين المسيحي الأميركي المتطرف. وكما قال جمهوري بارز «إنهم يتحدثون بصوت مرتفع وحولوا مركز الثقل تجاه «إسرائيل» وضد التنازلات. وقد أدى ذلك إلى صبغة للبيئة التي تتخذ فيها القرارات». وفي الحقيقة ان درجة تأييد حكومة بوش لشارون أذهلت حتى اليهود الصهاينة الأكثر تطرفا.
ويرى الباحث الأميركي في السياسة الخارجية، ورئيس برنامج دراسات السلام والعدل بجامعة سان فرانسيسكو، ستيفن زونيس أنه تبعا لذلك فإن الجناح اليميني للصهاينة المسيحيين أصبح في هذه المرحلة أكثر أهمية في صوغ السياسة الأميركية تجاه «إسرائيل» من الصهاينة اليهود، وهو ما توضحه ثلاثة حوادث:
* بعد إدانة بوش الأولية لمحاولة اغتيال سلطات الاحتلال الإسرائيلي القائد البارز في حركة حماس عبدالعزيز الرنتيسي في يونيو/ حزيران 2003 عبأ اليمين المسيحي دوائره الانتخابية لإرسال آلاف الرسائل الإلكترونية إلى البيت الأبيض احتجاجا على هذا الانتقاد. والعنصر الرئيسي في تلك الرسائل كان التهديد بأنه في حال استمرار مثل هذا الضغط على «إسرائيل» فإن أعضاء اليمين المسيحي سيلزمون بيوتهم في يوم الانتخابات. وفي غضون 24 ساعة كان هناك تغير ملحوظ في لهجة الرئيس بوش. وعندما اغتالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الرنتيسي في أبريل/ نيسان 2004 فإن حكومة بوش وكما فعلت تجاه عملية اغتيال الشيخ أحمد ياسين في شهر مارس/ آذار 2004 دافعت بشكل كبير عن الإجراء الإسرائيلي.
* وعندما أصرت حكومة بوش على أن توقف «إسرائيل» اجتياحها العسكري في أبريل 2002 للمناطق الخاضعة لإشراف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وإعادة احتلالها تلقى البيت الأبيض أكثر من 100 ألف رسالة إلكترونية من المحافظين المسيحيين احتجاجا على الانتقاد الموجه لـ «إسرائيل»، تصدى الرئيس بوش على الفور تقريبا للدفاع عن «إسرائيل».
وتحديا لاعتراضات وزارة الخارجية الأميركية تبنى الكونغرس ذو الغالبية الجمهورية مشروعات قرارات تؤيد إجراءات «إسرائيل» وتلقي اللائمة عن العنف على الفلسطينيين وحدهم.
* وعندما أعلن بوش تأييده لخريطة الطريق تلقى البيت الأبيض أكثر من 50 ألف بطاقة خلال الأسبوعين اللاحقين على بيانه الخاص بخريطة الطريق من المحافظين المسيحيين يعارضون فيها أية خطة تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية، وسرعان ما أخذت حكومة بوش بالتراجع عن موقفها لتصبح الخريطة ميتة بصورة أساسية.
التأثيرات اللاهوتية... الخير في مواجهة الشر
ويشير زوينس الذي نشر حديثاً كتابه عن «سياسة الولايات المتحدة الخطرة وجذور الإرهاب»، إلى وجود تأثيرات لاهوتية مسيحية وراء اعتقاد اليمين المسيحي بهيمنة «إسرائيل» كضرورة للمجيء الثاني للمسيح. وعلى رغم أن هذا المبدأ يعتبر بالتأكيد جزءا من تأييد اليمين المسيحي لدولة يهودية عسكرية توسعية فإن الأصولية المسيحية الأميركية المتصهينة تدعي عقيدة حتى أكثر خطورة وهي المانوية التي تقوم على الاعتقاد بأن الحقيقة مقسمة إلى خير مطلق وشر مطلق. فبعد يوم واحد من هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول العام 2001 في نيويورك وواشنطن، أعلن الرئيس بوش أن «هذا سيكون كفاحا ضخما للخير مقابل الشر وأن الخير سيسود»، وطبقا لما قاله بوش فإن الولايات المتحدة قد استهدفت ليس بسبب تأييدها للدكتاتوريات العربية والوجود العسكري الأميركي الكبير في المنطقة ودعم الولايات المتحدة للاحتلال الإسرائيلي أو العواقب الإنسانية الوخيمة للسياسة الأميركية تجاه العراق بل «لأنهم يكرهون حريتنا».
وعلى رغم إصرار الأناجيل على أن الخط الفاصل بين الخير والشر لا يمر بين الأمم المتحدة بل داخل كل شخص، فإن بوش استشهد بنصوص تتعلق بشخصية المسيح وصفاته وحياته لتأييد أهدافه الحربية في المنطقة معلنا «أن الضوء (أي أميركا) قد أضاء في الظلام (أي أعداء أميركا) والظلام لن يتغلب عليه (أي أن أميركا ستهزم أعداءها)».
وهناك حتى ما هو أكثر إزعاجا من ذلك، فقد ذكر بوش مرارا أن الله قد دعاه لأن يترشح للرئاسة. وقد أشار الصحافي الأميركي البارز بوب وودورد إلى أن بوش كان يلقي بمهمته وبمهمة البلاد في الرؤية الواسعة لخطة الله الكبرى، إذ وعد بحسب كلماته نفسها بـ «تصدير الموت والعنف إلى زوايا الأرض الأربع دفاعا عن هذه البلاد العظيمة وتخليص العالم من الشر».
وبذلك فإن الرئيس بوش يعتقد بأنه قبل مسئولية قيادة «العالم الحر» كجزء من خطة الله، بل وصل الأمر به طبقا لما ذكره وودورد نفسه أن بوش كان أبلغ رئيس حكومة السلطة الفلسطينية السابق محمود عباس (أبومازن) لدى زيارته واشنطن في شهر يونيو/ حزيران 2003 أن «الله قد أبلغني بضرب القاعدة وضربتهم ثم وجهني لضرب صدام وهو ما فعلته». فالعراق أصبح في مفهوم بوش ومستشاريه بابل الجديدة، والحرب على الإرهاب خلفت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي كعنوان أساسي للمعركة بين الخير والشر.
والروحية التي يشترك فيها كثير من الأميركيين مع «إسرائيل» متأصلة في مهمة تاريخية مشتركة، إذ يزعمون أن كيانيهم أقيما بجهود «الضحايا الفارين من الاضطهاد الديني الذين شكلوا كيانا جديدا متأصلا في مثل عليا بنظام سياسي يرتكز على مؤسسات تقدمية وديمقراطية نسبيا»، كما أن هذين الكيانين (الولايات المتحدة و«إسرائيل») أقيما من خلال القمع والمذابح وتشريد السكان الأصليين. ويقول زوينس إن الأميركيين مثل الكثير من الإسرائيليين يختلط عليهم في الغالب الإيمان الديني الأصولي بالأيديولوجية (القومية).
ويرى اللاهوتي المتزمت جون وينثروب (في القرن السابع عشر) أميركا أنها «مدينة على التلة (صهيون) وضوء على الأمم». وهناك نوعان من الصهيونية الأميركية تفترض صورة وحيدة فريدة من نوعها مقدسة لأميركا تبرر سلوكا يعتبر غير مقبول لو لم تكن هذه الصهيونية. وكما دافع وينثروب عن المذبحة التي ارتكبها الإنجليز ضد قبيلة بيكوت من سكان أميركا الأصليين في العام 1637 في مستعمرة ماساشوسيتس التي راح ضحيتها 500 من الـ «بيكوت»، كجزء من خطة مقدسة، فقد دافع اللاهوتيون في القرن التاسع عشر عن توسع أميركا نحو الغرب كـ «مصير واضح» وكإرادة الله.
ولم يتوقف هذا التوسع عند المحيط الهادئ: غزو الفلبين في التسعينات من القرن الثامن عشر كان مبررا من الرئيس الأميركي آنذاك ويليام ماكينكي وآخرين كجزء من جهد «لرفع» و«إضفاء المسيحية» على سكان البلاد الأصليين متجاهلين حقيقة أن الفلبينيين، الذين كانوا في ذلك الوقت قد تخلصوا تقريبا من المستعمرين الإسبان، وأقاموا أول وضع ديمقراطي في آسيا، كان أكثر من 90 في المئة منهم مسيحيون.
واليوم، ففي أعين اليمين المسيحي الأميركي فإن مبدأ بوش وتوسع القوة العسكرية والاقتصادية الأميركية هو جزء من خطة مقدسة. فعلى سبيل المثال، فإن بطاقة عيد الميلاد للعام 2003 التي وزعها نائب الرئيس الأميركي ريتشارد (ديك) تشيني وزوجته ليني تضمنت العبارة المقتبسة «وإذا لم يستطع عصفور الدوري أن يسقط إلى الأرض من دون علمه (أي علم الله)، فهل من المحتمل أن تقوم امبراطورية من دون مساعدته (مساعدة الله)؟».
غير أن هذا التفكير يدفع محللين إلى التساؤل عما إذا كان يتعلق بالمعايير السائدة في الولايات المتحدة؟ فاستطلاعات الرأي تظهر أن الفجوة العقائدية بين المحافظين المسيحيين والأميركيين الآخرين فيما يتعلق بالغزو الأميركي للعراق والحرب على ما تسميه واشنطن «الإرهاب» هي حتى أكبر من الفجوة الأيديولوجية بين المحافظين المسيحيين والأميركيين الآخرين إزاء «إسرائيل».
وفي نواح كثيرة فإن الكثير من اليمين المسيحي الأميركي ربما يكون قلقا على الأقل بشأن كيفية استطاعة «إسرائيل» مساعدة الولايات المتحدة بمثل ما تساعدها الولايات المتحدة. وبسبب التراث المناهض لليهود الذي تركز عليه الكثير من الدراسات اللاهوتية المسيحية الصهيونية، فقد جرى الاعتراف منذ زمن طويل بأن التأييد الأصولي لـ «إسرائيل» لا ينبع من موافقة على اليهود ذاتهم بل من رغبة في دعم ما يزعم أنه «الوطنية اليهودية» للتعجيل في المجيء الثاني للمسيح.
وإن مثل هذه الانتهازية هي أيضا صحيحة بالنسبة إلى أولئك الذين يسعون لأسباب لاهوتية أو غيرها من الأسباب إلى الدفع باتجاه إقامة امبراطورية أميركية في المنطقة. وعلى رغم إمكان إقامة قضية قوية بأن دعم الولايات المتحدة للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة يضر في النهاية بالمصالح الأميركية فإنه يظل هناك مفهوم منتشر على نطاق واسع بأن «إسرائيل» تعتبر رصيدا مهما للأهداف الاستراتيجية الأميركية في المنطقة العربية وجوارها.
وفي النهاية فإن دفاع الولايات المتحدة عن «إسرائيل» وحمايتها، كما يعتقد زوينس، هو أشبه بالموافقة على حكومة قمعية أخرى، وهو جزء من حساب استراتيجي وليس مجرد سياسات إثنية. وعندما ينبغي أن يكون هناك خيار فإن اعتبارات الجغرافيا السياسية تكون أكثر أهمية من الولاءات العرقية. وكمثال على ذلك، فإن الولايات المتحدة أيدت طيلة ربع قرن الحكم الأندونيسي لتيمور الشرقية، وضم المغرب للصحراء الغربية على رغم عدم وجود مجموعات ضغط اثنية أندونيسية - أميركية أو مغربية - أميركية.
وكان اليمين المسيحي الأميركي مستهدفا بشكل واضح من الحزب الديمقراطي وخصوصاً جناحه الليبرالي لأن معظم الأميركيين منزعجون بصورة عميقة من الأصوليين من أي نوع وتأثيرهم على السياسات الحكومية التي تتمتع بتقاليد سادت طوال قرون في الفصل بين الكنيسة (الدين) والدولة. ومع ذلك فإن مواقف معظم الديمقراطيين الليبراليين في الكونغرس الأميركي إزاء الصراع العربي - الصهيوني هي أقرب بكثير من سياسات التحالف المسيحي الرجعي منها إلى سياسات مجلس الكنائس القومي المعتدلة، أي أقرب إلى الواعظ المسيحي اليميني البارز بات روبرتسون منها إلى الأسقف (الليبرالي) ويليام سلون كوفين، وأقرب بكثير إلى الأكثرية الأخلاقية المحافظة جدا منها إلى الكنائس الليبرالية للسلام في المنطقة، وأقرب بكثير إلى الاعتقاد البروتستانتي الجنوبي الأصولي من أية كنائس بروتستانتية تمثل الاتجاه العام.
ويقول زوينس إنه بدلا من اتهام هؤلاء الليبراليين الذين ينتمون إلى الماضي بأنهم أسرى اللوبي اليهودي الإسرائيلي، بما قد يؤدي أيضا إلى تهمة مضادة بمعاداة السامية، فإنه ينبغي على هؤلاء الذين يؤيدون العدل للفلسطينيين، أن ينتقدوا الديمقراطيين في الكونغرس لوقوعهم أسرى اليمين المسيحي، ومن شأن هذا الانتقاد أن يعزز مقدرة هؤلاء الذين يؤيدون السلام والعدل وحكم القانون ويبرز اللاأخلاقية العميقة في موافقة الكونغرس على الاحتلال الإسرائيلي.
ويرى زوينس أنه لن يكون من الممكن مواجهة نفوذ اليمين المسيحي في تشكيل السياسات الأميركية في المنطقة العربية وجوارها طالما أن المشرعين المسيحيين وغيرهم من المسئولين التقدميين المنتخبين خاضعين لضغوط الأصوليين المتعلقة بالأصوات الانتخابية وأن من غير المحتمل أن يتغير هؤلاء الديمقراطيون والجمهوريون المعتدلون، ما لم تجند الكنائس الليبرالية التي تمثل الاتجاه العام مواردها باتجاه المطالبة بالعدل، كما جند الأصوليون من الجناح اليميني بقوة مواردهم دعما للقمع
العدد 728 - الخميس 02 سبتمبر 2004م الموافق 17 رجب 1425هـ