كان من المتوقع أن تهب الدولة لمساعدة المتضررين من انقطاع الكهرباء يوم الاثنين قبل الماضي، وخصوصاً الفئات الأكثر تضرراً وحاجة ممن يعيشون في قاع المجتمع. وكان من المفترض أن تكون هناك طريقة منظمة تضمن توزيع هذه التعويضات على العوائل المستحقة. وإذا كان بإمكان الكثير من العوائل امتصاص الخسائر وتعويضها في غضون شهر أو شهرين أو ثلاثة، فإن هناك من العوائل المعدمة من ستبقى تعاني من آثار هذه الكارثة لأمدٍ قد يمتد إلى عام كامل، بعد أن تعطل مكيفها، أو ثلاجتها أو أحد أجهزتها الكهربائية الأخرى. وسينفتح الجرح مرة أخرى، مع بداية شهر ابريل/ نيسان من العام المقبل، حين يحلّ الحر من جديد، فتلفي هذه الأسر نفسها من دون مكيف أو ماء بارد، وهي عاجزة عن توفير الرغيف، فكيف بشراء جهاز جديد يكلف ضعف مدخولها الشهري الهزيل.
على أن ما جرى من توزيع المساعدات في الاسبوع الأخير، كشف عن وجود أوجه قصور كثيرة في تعاطينا مع الكوارث والمشكلات الوطنية، ما يتطلب إعادة النظر في هذه الطريقة غير العصرية. وعلى رأس تعاطينا المتخلف ما كشفه الواقع من إصرار بعض المحافظات على «استدعاء مجاميع الفقراء» وأرباب الأسر المدقعة إلى «مجمعات التوزيع» ليتم التكرم عليهم بمبلغ 35 ديناراً، كأننا في الاتحاد السوفياتي السابق.
مبدأ التعويض تمارسه الأقوام المتحضرة أيام الكوارث في صيغة التزام تقدمه الدولة لمواطنيها من موازنتها، على أساس انه حق وليس هبة. وإذا كنا نطالب بذلك فلأن للمواطن كرامة لا يمكن أن نشتريها حتى بالدولار. هذه الكرامة «الأصيلة» للإنسان يجب حفظها ومداراتها ومراعاتها في هذا البلد العزيز بأقصى السبل.
مساء يوم الثلثاء الماضي تلقيت مكالمة من رئيس أحد الصناديق الخيرية بالمنطقة الوسطى، يشكو فيها من الطريقة التي طلب منهم القيام بها، لجمع الفقراء أمام الصندوق الخيري لتوزيع 20 كوبوناً، بينما عدد الأسر التي تتلقى مساعدات شهرية من الصندوق يزيد على 160 أسرة، وما سيخلقه ذلك من مشكلات ستضع الصندوق في بؤرة الاتهام بالمحاباة والتمييز بين الأسر، فضلاً عن عدم مراعاة هذه الطريقة للجانب الإنساني على الإطلاق. وقال انهم إذا أصروا على موقفهم فإننا سنعلن تحفظنا عليها ونرفض المشاركة فيها.
رئيس أحد الصناديق بالمحرق عندما طرح الإشكال نفسه أجاب المحافظ أمام رجال الصحافة بالحرف الواحد: «اللي يبي يبي، واللي ما يبي كيفه»! فهل نحن في بلدٍ تسوده الفوضى والمزاجية و«كل واحد كيفه» أم اننا نعيش في بلدٍ متحضرٍ ونطمح إلى أن تصبح الاجراءات الادارية البسيطة منظمة وراقية؟ وإذا كان الجمهور ينتظم أمام الخباز يومياً وينتظر دوره لشراء الرغيف، فهل يريد سعادة المحافظ ان يركب الفقراء رقاب بعضهم بعضاً من أجل 35 ديناراً؟
احفظوا ماء وجوه الفقراء
الصناديق الخيرية والجمعيات الإسلامية كانت تقوم بهذا الدور المنظم والمشكور منذ سنوات، من دون أن تجرح كرامة الفقراء، وخصوصاً أن الكثير منهم يرفض المجيء إلى مقر الصندوق أو الجمعية لتسلم المعونات تعففاً وعزة نفس، فيقوم أفراد متطوعون بتوزيع كوبونات المساعدات الشهرية بهدوء ومن دون أن يسمع بحسيسهم أحد. وفي كثير من الأحيان يتم إيصالها ليلاً، وفي بعض المؤسسات تكلف عضوات اللجان النسائية بذلك، كل ذلك حفاظاً على كرامة الناس، فللناس كرامة لا يفهم بعض المسئولين ما معناها، لأنهم ببساطة استقر في عقولهم ان من لم يلبس بشتاً وعقالاً أو ربطة عنق، فإنه من رتبة الحيوانات، وهل للحيوانات «كرامة»؟ وهي العقلية ذاتها التي صدرت عنها الدعوة لجمع التبرعات من الجمهور للمنتخب الوطني قبل أكثر من شهرٍ لتكريمه على ما حققه من إنجازات رياضية في دورة بكين، ولولا الانتقادات الشديدة التي ووجهت بها تلك الاعوجاجة في التفكير لرأينا «حصالات المنتخب الوطني» منتشرة في برادات الأسرة والحلي!
ولا أدري لماذا أصرّت المحافظات على طريقة توزيع المبالغ المخصصة للفقراء المتضررين من انقطاع الكهرباء بهذه الصورة التي لا تحفظ للناس كرامتهم؟ ولماذا عدم الثقة بالصناديق والمؤسسات الخيرية في توزيع الكوبونات على المستحقين؟ وليت هؤلاء المسئولون في المحافظات يعلمون أن الصناديق توزع شهرياً مثل هذه المبالغ من دون ميكروفونات ولا عروض صحافية أو تلفزيونية، تفتقر إلى الذوق الإنساني السليم.
ان مواريثنا الدينية التي تربّينا عليها أن المحتاج إذا جاء سائلاً، يُطلب منه كتابة حاجته على الأرض ليتم تلبيتها، حفظاً لماء وجهه الكريم. وكل ما نطالب به أن يدرك هؤلاء «المحافظيون» ان للناس كرامة، وإن الكرامة أغلى بكثير جداً من مبلغ 35 ديناراً. عسى أن يأتي يومٌ على هذا البلد يتعلم فيه الجميع أن ماء وجه الفقير من الأحجار الكريمة التي لا تباع حتى بالدولار
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 727 - الأربعاء 01 سبتمبر 2004م الموافق 16 رجب 1425هـ