العدد 2786 - الخميس 22 أبريل 2010م الموافق 07 جمادى الأولى 1431هـ

بذور الاشتراكية والفاشية والوجودية

نشوء النخبة الأوروبية(10 )

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ظهور بذور المدارس الاشتراكية المثالية والفاشية والإلحادية والوجودية والاجتماعية والطبيعية في النصف الأول من القرن التاسع عشر لم يتولد من الفراغ. فهذا الفكر المتخالف ترافق مع أطياف فلسفية أخذت تعيد ترتيب الأفكار وتنظيمها وفق منهجيات تعتمد آليات في التفكير تساعد على الخروج من فوضى النمو المتسارع الذي شهدته أوروبا في فترة زمنية قياسية.

مطلع القرن تأسس على قاعدة تحولات انقلابية في نهاية القرن الثامن عشر زعزعت استقرار القارة ودفعتها من ضفة إلى أخرى ما أدى إلى نمو حالات من التشاؤم رداً على موجة التفاؤل التي زرع بذورها فلاسفة التنوير والعقلانية في فرنسا. فالثورة الفرنسية أخفقت في بناء «دولة الثورة» ما أدى إلى فشل «العقد الاجتماعي» وانهيار ما يسمى بدولة «العقل» بسبب ذلك العنف الذي أطاح بقادتها ورموزها. والانقلاب البونابرتي (نابليون) جرف فرنسا إلى حروب الغزو داخل القارة وخارجها (مصر). وهزيمة نابليون ساهمت في تراجع الفكر الجمهوري ومسألة الديمقراطية والحقوق والمساواة وأدت تباعاً إلى إلغاء الكثير من الامتيازات النقابية والمكتسبات العمالية في فترة كانت المفاهيم التقليدية (رعاية الكنيسة لليتامى والفقراء مثلاً) أخذت تغيب عن المؤسسات الرسمية ومسرح التاريخ.

هذه الفترة الارتدادية من الجمهورية والديمقراطية إلى الملكية الدستورية المقيدة بالشروط أنتجت لحظة انتقالية ضبابية أفسحت المجال لنمو الفقر وازدياد الجريمة وانتشار الفساد والرشوة واتساع قاعدة الدعارة والسطو على المال العام.

آنذاك أخذت الصناعة تتطور سريعاً في بريطانيا (الدولة الأولى عالمياً) وبدأت بالانتشار الهادئ في فرنسا وألمانيا. وأدى هذا التحول إلى ردود فعل مثالية (عفوية) على النمو الجديد للحياة وعلاقات الاجتماع وذلك الانقلاب الذي بدأ يحفر قنواته في أسلوب الإنتاج.

ضياع هوية المجتمع وتبعثر تقاليده واشتداد الضغط على الطبقة الوسطى ترافق مع نمو مراكز قوى متباينة في تصوراتها وبدائلها أخذت تفكر في إعادة صوغ بنية المجتمع وهياكله الإدارية. فالنزاعات الأيديولوجية التي تولدت من العنف تأسست على قواعد اقتصادية جديدة بدأت تتشكل في إطار نظام اجتماعي أخذت معالمه ترتسم قبيل العام 1800 في ضوء ظهور قوى منتجة كانت تبحث عن أدوات للحل وقنوات لتفريغ الطاقة.

أدت المرحلة الانتقالية المتمثلة في نمو رأسمالية غير ناضجة وطبقات غير واضحة إلى ظهور اجتهادات نظرية متعاكسة في تصوراتها، ولكنها متوافقة على ضرورة اقتراح الحلول للخروج من أزمة كان من الصعب في تلك الفترة المبكرة تحديد أسبابها وعواملها ودوافعها. وجاء ابتداع أنظمة اجتماعية جاهزة وبديلة للحلول مكان وضع متخثر تسيطر عليه حالات من القلق والخوف من جانب ومشاعر بالسعادة والفرح من النمو والازدهار من جانب رداً منطقياً على انكسارات اجتماعية أطلقت شرارات متضاربة الاتجاهات والتوجهات.

تحطم «المجتمع القديم» وتراجع موقع الكنيسة الكاثوليكية وانقسام دور الحركة البروتستانتية بين اللوثرية والكالفينية ونمو أنشطة الشبكة اليسوعية الإصلاحية (التجديدية) كشف عن حاجة تاريخية لنخبة قادرة على قراءة المستقبل والتحكم بآليات تطوره السريع.

الحاجة فرضت شروطها على النخبة الأوروبية التي تجاوبت مع متطلبات الزمن برؤى لم تكن موحدة في التفكير والتخطيط ما أثار تصورات مبهمة عن مستقبل غامض. ولكن الإحساس بوجود جديد ونوع من الرفاهية المعقولة شجع النخبة على التفكير بحلول وردية زاهية وزاهرة ترسم صورة متخيلة (طوباوية) عن «مدينة فاضلة».

في هذه الفترة الانتقالية بدأ ظهور «الاشتراكية المثالية» وأخذت تتشكل اعتراضات إنسانية تخالف السلوك القهري الذي ارتسمت معالمه على ضفاف التحول السريع. في يناير/ كانون الثاني 1800 بدأ روبرت أوين يدير مشروع نيولانارك بعقلية الشراكة، وأصدر سان سيمون كتابه الأول (رسائل من جنيف) في العام 1802، وأيضاً ظهر الكتاب الأول لشارل فورييه في العام 1808 عن الشراكة الاجتماعية.

أعمال وأفكار النخبة «الاشتراكية المثالية» لم تكن الوحيدة في ساحات مفتوحة على كل الاحتمالات. التصدع التاريخي كان قوياً إلى درجة كسر كل الاستقطابات المتوارثة ودفع القوى إلى التنافس على تقديم قراءات مبنية على تصورات اقتصادية من جهة وإرهاصات فلسفية إشراقية وعرفانية وصوفية من جهة أخرى.

في الوقت الذي كان الطوباويون الاشتراكيون يفكرون في المستقبل شهدت أوروبا طوباويات مثالية تفكر فلسفياً في الماضي وتسقط المجهول على عمليات التقدم ما كان له تأثيره السلبي على عقول النخبة في العقود المقبلة.

آنذاك ظهرت فلسفة يوهان هردر (1744 – 1803) الذي بدأ نشاطه الذهني في ألمانيا في عصر التنوير الفرنسي حين استمع بداية لكانط وتأثر به ثم عاد ورد عليه بشأن نقده للعقل. وحاول الفيلسوف الألماني هردر شرح رأيه في فلسفة تاريخ الإنسانية (صدرت كتبه بين 1774 و1791) في تأكيد تطور فكرة التقدم في التاريخ وتقدم المجتمع نحو الإنسانية. وهو بهذا الإطار المبرمج سبق هيغل وشيلنغ في قراءة الأفعال الإنسانية الفردية ونتائجها التاريخية الموضوعية ولكنه فشل في توضيح مخططه في دائرة عالم المستقبل.

آرثور شوبنهور (1788 - 1860) كان أسوأ في تصوراته المستقبلية من هردر. فهذا الفيلسوف المثالي الألماني الذي درس في برلين وفرانكفورت ألف «العالم كإرادة وامتثال» في العام 1819 وكان ضد التفكير المادي العقلاني والجدل الهيغلي. بداية تقبل آراء كانط ثم عاد وعارضها بفكرة اللاعقلانية والإرادة وقوتها الذاتية، رافضاً فكرة التقدم التاريخي ما دفعه إلى التوجه نحو الماضي والتصوف والنيرفانا (السكينة المطلقة). أفكار شوبنهور لاقت الاعتراض في مطلع القرن التاسع عشر لكنها عادت وازدهرت بعد العام 1848 وتأثر بها نيتشه (1844 - 1900) حين صاغ مفهومه عن فلسفة التفوق والقوة «السوبرمان» التي أخذها النازيون لاحقاً.

التفكير الاشتراكي (المثالي) لم يكن وحده في الساحة، إذ نهضت إلى جواره اجتهادات متخالفة في قراءة المستقبل ورؤية الماضي. التفسير الديني للتاريخ كان يتراجع لمصلحة تفسيرات متعارضة وغير موحدة في منطقها التأويلي أو العقلاني أو الاقتصادي. وهذا التخبط الفكري كان نتاج تحولات متسارعة نقلت إلى المجتمع تحديات خطيرة دفعته إلى نوع من الفوضى في الاختيارات. في بريطانيا مثلاً نجح آدم سميث (1723 - 1790) في إنتاج كتابه عن «ثروة الأمم» مؤسساً فيه قانون المنفعة الذي يتكفل آلياً في تنظيم الشئون الاجتماعية للقوى المنتجة.

هذا القانون أخذ به بنثام وجيمس مل ولاحقاً ابنه جون ستيوارت (1806 - 1873). فالولد الذي أشرف والده على تربيته وشجعه على العمل في شركة الهند الشرقية وانتخب عضواً في مجلس النواب في العام 1865 لم ينجح في التحول إلى رجل دولة بسبب ترويجه لأفكار والده وبنثام، ولكنه استطاع إصدار مجموعة كتب في المنطق والاقتصاد السياسي ومبادئ الحرية والنفعية بين 1843 و1861 سيكون لها تأثيرها اللاحق في تعديل مفاهيم الحق والمساواة (الليبرالية) وخصوصاً حين رد في العام 1865 على أوغست كونت وفلسفته الاجتماعية الواقعية (الوضعية).

مل (الابن) سيعاصر الكثير من الرموز التي زرعت إلى جواره بذور الاشتراكية والفاشية والوجودية والقومية في مطالع القرن التاسع عشر وأدت في نهاياته إلى نمو شجيرات فكرية سيكون لها دورها الخطير في القرن العشرين. آنذاك اشتهر كتاب ديفيد ريكاردو (1772 - 1823) عن مبادئ الاقتصاد السياسي وفرض الضرائب الذي صدر في لندن في عشرينات القرن التاسع عشر وكان له تأثيره على نظرية كارل ماركس بشأن فضل القيمة (القيمة الزائدة). فالنظرية الماركسية تأسست على مفهوم القيمة لريكاردو التي أخذ بها ماركس وطورها إلى قيمة قوة العمل (الأجر غير المدفوع للعامل) وأسس عليها فكرة الربح وصراع الطبقات.

المفكر الدنماركي سورين كيركغارد (1813 - 1855) سيلجأ إلى الصوفية هرباً من الواقع المتحطم. في البداية انتقد فلسفة هيغل الجدلية التاريخية المثالية من زاوية ذاتية فكتب عن «مفهوم الخوف» و»المرض حتى الموت». فالحقيقة عنده ليست تاريخية وإنما وجودية ذاتية. ولهذا بشر الناس باليأس، ورأى أن الوجود الإنساني يتمظهر في ثلاثة أنواع: الجمالي، الأخلاقي، والديني. وبما أن الديني هو الأعلى فإن الوجود لن يتقدم أو يتراجع لأنه يتألف من مزيج مركب بين المتناهي (المؤقت) واللامتناهي (الأبدي). فلسفة الوجود (الوجودية) لم تعرف الشهرة في زمن كيركغارد ولكنها ستنتشر لاحقاً وتساهم في تأسيس تيار عالمي ستأخذ به المدارس الوجودية في أوروبا في حقبات متلاحقة.

أوغست كونت (1798 - 1857) سيساهم في تأسيس الفلسفة الوضعية (العلوم الاجتماعية) حين نجح في توظيف العلوم الطبيعية في خدمة الفلسفة. فهو ابتكر مصطلح علم الاجتماع حين انشق عن أستاذه سان سيمون في العام 1824 مستعيراً منه مثاله الجدلي عن تطور التاريخ وتقدمه العام على ثلاث مراحل (اللاهوتية، الميتافيزيقية، الوضعية) أو كما كان يقول معلمه إن التاريخ مر في ثلاث حقبات: الأولى الدين، الثانية الميتافيزيقية، الثالثة النظام الاجتماعي الوضعي.

كونت سيترك تأثيره لاحقاً على العالم الاجتماعي دوركيم (1858 - 1917)، وقبله هربرت سبنسر (1820 - 1903) الذي أخذ عن هيوم وكانط ومل منتقلاً بهم إلى علم الاجتماع ما ساهم في تطوير المدرسة الوضعية ومذهبها الواقعي.

الفيلسوف الألماني الملحد لودفيغ فيورباخ (1804 - 1872) بدأ حياته مثالياً متأثراً بهيغل ثم دخل في صراع مع الكنيسة بعد نشر كتابه الأول عن «الموت والخلود» في العام 1830 ما أدى إلى فصله من الجامعة وانقلابه على فلسفة هيغل. اتجه فيورباخ إلى الاشتراكية وبدأ يشتغل على تطوير المذهب الطبيعي (المادي) في دراسة التاريخ والدين والإنسان وأخذ بتطبيق علم الإنسان في اكتشاف الحياة الاجتماعية والجذور التاريخية للدين، وانتهى إلى اعتبار الدين قوة اغتراب (استلاب) لوعي الإنسان. هذا الحس التجريبي المادي المعارض لنظرة اللاأدرية دفعه لاحقاً إلى نقد الطبيعة المثالية للهيغلية في العام 1839 ثم انتقل لنقد المسيحية (جوهر المسيحية) في العام 1841 ما ترك تأثيره إلالحادي (المادي) على ماركس وانغلز. فيورباخ يعتبر فلسفياً والد الماركسية من دون إرادة منه لأن منهجه المادي التاريخي سيشكل لاحقاً أحد المصادر الرئيسية لفلسفة الثنائي ماركس/ انغلز.

السياسي الاقتصادي جوزيف برودون (1809 - 1865) بدأ منهجه الفكري على أساس هيغلي وما كتبه عن تاريخ الأفكار وصراعها الضدي (وحدة الأضداد) ولكنه تحول إلى اقتصادي فوضوي ضد الديالكتيك وأخذ يتحدث عن «التبادل العادل» معتبراً من موقف أخلاقي أن الملكية الخاصة «سرقة». وحين نشر كتابه «فلسفة البؤس» رد عليه ماركس في كتاب مضاد في العام 1847 أطلق عليه «بؤس الفلسفة» مشيراً فيه إلى تاريخ «صراع الطبقات» وضرورة القضاء على «كل الطبقات» مستقبلاً.

العالم الاجتماعي الطبيعي تشارلز داروين (1809 - 1882) عاد من رحلته الاستكشافية البحرية - البرية بنظرية تجريبية - مختبرية تؤكد اتصال عالم النبات بالحيوان بالإنسان معتبراً أن تطور الطبيعة على مدار الزمن أنتج الحياة بما هي عليه اليوم. وأدى كتابه المهم عن «أصل الأنواع» ثم كتابه الآخر عن «أصل الإنسان» إلى تشكيل مدرسة مادية تعيد كل الأشياء والأحياء إلى عالم الطبيعة الأمر الذي ساهم في تأسيس فلسفة التفوق (الانتخاب الطبيعي) ونظرية البقاء للأقوى والأصلح التي أخذت بها لاحقاً الاجتهادات العرقية والعنصرية ووظفتها في فضاء مخالف لمفاهيم مؤسسها.

العالم الاجتماعي الأميركي في الأجناس والآثار لويس مورغان (1819 - 1881) سار على منوال داروين ودرس طريقة عيش الهنود الحمر (الشعوب الأميركية الأصلية) وخصوصية ثقافتهم وقدم معلومات غنية عن المجتمع المشاعي البدائي في كتابه «المجتمع القديم» الذي صدر في العام 1877. تأثر الثنائي ماركس - انغلز بأفكار مورغان لأنه أعاد اكتشاف المفهوم التاريخي للعائلة وكيف تتغير تاريخياً مع تطور المجتمع ما شجع انغلز على الأخذ بمراجعاته وخلاصاته حين أصدر كتابه المهم عن «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة».

كل هذه المسارات المتعارضة بدأت بذورها في مطلع القرن التاسع عشر وهي تشكلت نتيجة تحطم «المجتمع القديم» وانكسار التفكير التنويري بعد هزيمة بونابرت وانهيار الجمهورية الفرنسية ونمو موجة من «المحافظين الجدد» في أوروبا نجحت في التحكم بمقاليد بعض السلطات السياسية ومواقع الدول بين 1815 و1848.

هذه الفترة ساهمت في إعادة هيكلة الكثير من الأفكار والنظريات وشجعت على تشكيل بذور اجتهادات فلسفية سيكون لها تأثيرها في صوغ سياسات دولية بسبب نجاح أوروبا في التحول إلى قاطرة العالم تجر شعوبه كالعربات على سكة الحديد المعاصرة. ولكن هذا التحول السريع سيجلب إلى القارة إضافة إلى المواد الأولية والطبيعية والثروات المعدنية (الذهب والفضة) الأفكار والمعتقدات القديمة والتحف التي أخذت الحفريات بإخراجها من باطن الأرض وذاكرة التاريخ.

أوروبا التي انفتحت على العالم منذ القرن الخامس عشر سينفتح العالم عليها للأخذ بأسباب تقدمها وتفوقها وفي الآن سيضخ إليها الكثير من المعتقدات والكتب القديمة التي بدأ علماء الآثار وبعثات الاستكشاف بنقلها من العالم الآخر البعيد ومن وراء البحار.

هذا التبادل بين الجديد والقديم (تصدير فائض القوة واستيراد الكتب القديمة) سيلعب دوره في معادلة القوة والضعف وسيبدأ بتشكيل بذور مفاهيم أخذت تنمو رويداً في تربة خصبة وقابلة للحياة. ولكن النمو المطرد والمضطرب سيتمظهر في أنماط تفكير متعارضة ومسارات منهجية متخالفة، ما أعطى لاحقاً حيوية ثقافية ممانعة أخذت تتصالح بصعوبة بين الأنا والآخر.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2786 - الخميس 22 أبريل 2010م الموافق 07 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:45 ص

      مقالاتك جدا جميلة

      أتمنى أن تفرد لنا في حلقات مقبلة عن أفكار آدم سميث و ثروات الأمم.

اقرأ ايضاً