بعض المقاربات التي تناولت مشكلة المياه، من نمط تلك التي نشرها موقع الوحدة العربية لأستاذ الهندسة البيئية في كلية الهندسة والعلوم التطبيقية بجامعة هارفارد الأميركية بيتر روجرز، وترجمتها مايسة كامل، حاولت ان تتناول القضية من منطلقات نظرية، كما فعل روجرز عندما استعان بكتابات مجموعة من فلاسفة الاقتصاد الكلاسيكيين من أمثال آدم سميث، وإدوارد جيبون، وتوماس مالثوس، وديفيد ريكاردو، وكارل ماركس، التي تناولت «الدور الذي تلعبه عوامل مثل السكان والغذاء وموارد الطاقة»، في خلق الأزمات أو حلها. ينطلق روجرز من تلك الطروحات كي يحذر من أن «التلوث، وتغير المناخ، وتسرب مياه البحر إلى المياه الجوفية، من العوامل التي أدت إلى تضاؤل الإمدادات المتاحة من المياه العذبة بمعدلات مماثلة لتزايد الطلب».
في كلمة مختصرة، عندما يتعلق الأمر بالمياه ليس هناك ما يدعو للتفاؤل على الصعيد العالمي، فبالإضافة إلى الأرقام التي أوردناها في حلقة الأمس، تؤكد الأمم المتحدة أيضا أن عدد من يعانون من شحة المياه، سوف « يزداد من 132 مليون نسمة العام 1990 إلى نحو 904 مليون نسمة العام 2025 ، وسوف يتركز معظمهم في إفريقيا وأجزاء من غربي آسيا، و يتوقع أن يتراوح نصيب الفرد، في مصر، من المياه المتجددة بين 398 و 644 مترا مكعبا سنويا في العام 2050». ما هو واضح هنا هو أن مشكلة المياه، تنمو على الصعيد العالمي بشكل سريع ومخيف، وتتطلب، بالتالي وقفة جادة قادرة على أن تحد من ذلك النمو، وتحول دون تطوره إلى ما يشبه القنبلة الموقوتة، التي يصعب التكهن، متى ما انفجرت، وفي غياب أية تحصينات ضدها، بحجم الدمار الذي يمكن أن يخلفه انفجارها.
ولا يقتصر الأمر على الأمم المتحدة، فها هو البنك الدولي يحذر العرب علانية من أن «دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستواجه أزمة مياه خانقة ما لم تخصص الاستثمارات الكافية لهذا القطاع بصورة عاجلة». ويضيف البنك في تقرير خاص بوضع المياه في الوطن العربي أن «حصة الفرد من المياه ستتراجع الي النصف في العام 2050، وأن التغيرات المناخية والنمو السكاني سيفاقمان من حدة هذه المشكلة. ودعا البنك الدولي دول المنطقة الي معالجة مياه الصرف واقامة شبكات مياه أكثر وكفاءة وترشيد استخدام المياه».
ما تقوله أرقام الأمم المتحدة أن العرب لايقفون بعيدين عن تلك القنبلة، أو في مأمن من شظاياها المتناثرة في المحيط الذي يغطيه ذلك الانفجار، وهو أمر يعترف به المسئولون العرب قبل سواهم. وتعبر كلمة الأمين العام للجامعة العربية السابق عصمت عبد المجيد أمام مؤتمر الأمن المائي الذي عقد في القاهرة عن عمق هذه المشكلة، حين يقول «إن قضية المياه في الوطن العربي تكتسب أهمية خاصة نظرا لطبيعة الموقع الاستراتيجي للامة العربية، حيث تقع منابع حوالي 60 في المئة من الموارد المائية خارج الأراضي العربية، مما يجعلها خاضعة لسيطرة دول غير عربية، وما يزيد الأمر تعقيدا يكمن فيما يعانيه الوطن العربي من فقر مائي يصل في وقت قريب الى حد الخطر مع تزايد الكثافة السكانية وعمليات التنمية المتواصلة». يشاطر عبدالمجيد هذه المخاوف، بعد مضي ما يزيد على ربع قرن على تلك الكلمة، مسئول عربي آخر هو الأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية الدكتور أحمد جويلي يعترف، في أكثر من مناسبة، بأن «هناك ندرة حقيقية في مياه العالم العربي ، وأن نصيب الفرد العربي من المياه لا يتخطى 800 متر مكعب، تمثل 10 في المئة من المتوسط العالمي البالغ 8 آلاف متر مكعب، وبأن عدد الدول العربية التي تقع تحت خط الفقر المائي حاليا يتجاوز 19 دولة مشيرا إلى أن جميع الدول العربية ستقع تحت خط الفقر العام 2025».
وتتفاقم أزمة المياه وتزداد حضورا في دول مجلس التعاون، أكثر من سواها من البلدان العربية الأخرى، جراء، كما يقول موقع «مكتوب» النقص «الكبير في مصادر الطبيعية للمياه في دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلي التصحر وقلة معدلات الأمطار وعدم وجود أنهار وتزايد حجم الطلب علي المياه بشكل مطرد وبمعدل متضاعف من سنة إلي أخري نتيجة زيادة السكان».
وينشر الموقع إحصائيات رسمية مرعبة تؤكد «زيادة الطلب علي المياه في منطقة الخليج من 6 مليارات متر مكعب في العام 1980 إلي 70 مليار متر مكعب في العام 2006 ويتوقع أن يرتفع بحلول العام 2020 إلي أكثر من 50 مليار متر مكعب يستهلك قطاع الزراعة منها أكثر من 85 في المئة مقابل 13 في المئة لمياه الشرب في حين لا يزيد نصيب قطاع الصناعة منها علي 2 في المئة تقريبا».
لكن أخطر ما في الأمر فيما يتعلق بهذه المشكلة، هو كما يقول عضو جمعية المهندسين الكويتية سلمان القلاف، افتقاد دول مجلس التعاون لأية «سياسة مائية واحدة رغم أن المشكلة العامة بين دول الخليج وأسبابها مشتركة فإن التعامل معها فردي وليس جماعيا ويتفاوت من دولة إلي أخرى وفقا لاعتبارات كثيرة أهمها مدي تأثر كل دولة بالعجز المائي ومدي مساهمة الموارد المتاحة لها في تغطية هذا العجز». وهذا ما يحاول بيتر روجرز أن يبشر له حين قال «رغم أن تجنب أزمة المياه العالمية لن يكون بالمهمة السهلة، إلا أننا نمتلك بين أيدينا الآن السياسات والتقنيات التي إذا ما تم تطبيقها على النحو اللائق فقد تعبر بنا إلى بر الأمان في غضون العقود المقبلة، وحتى في مواجهة تزايد السكان وتعاظم ثرواتهم».
في ضوء كل ما تقدم، ليس هناك من بوسعه إنكار أن هناك مشكلة تتربص بالمجتمع البشري، لكنها بخلاف المشكلات الأخرى شبيهة بتلك القنبلة الموقوتة التي يدرك الجميع أنها قابلة للانفجار، لكن ما لايعرفه أي منهم، هو موعد انفجارها، والآثار المباشرة او غير المباشرة الناجمة عن ذلك الانفجار، على المستويين الأفقي الجغرافي، والعمودي العمراني. والمطلوب هنا ليس معالجة الأعراض، بمعنى شحة المياه، وإنما تشخيص الأسباب التي ولدت تلك الأعراض.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2785 - الأربعاء 21 أبريل 2010م الموافق 06 جمادى الأولى 1431هـ
كاتب رااااائع
مقالاتك يا أستاذ أكاديمية رقمية علمية متسلسلة تتناول قضايا مهمة غابت عن أنظار الحكومات و الأفراد
شكرا لك على المقال الرائع ، استمر نحن من المتابعين