وجه بركان آيسلندا سلسلة رسائل حامية للقارة الأوروبية. الأولى اقتصادية – مالية إذ أدت القذائف إلى إطلاق موجات من السحب الدخانية أسفرت عن تعطيل رحلات الطيران داخل أوروبا وخارجها لمدة أسبوع.الثانية تقنية إذ كشفت الغيوم الرمادية ضعف المنظومة التكنولوجية وعدم قدرتها على مواجهة تحديات غير متوقعة وخارج إرادتها. الثالثة قوة الطبيعة وعجز الإنسان عن السيطرة على غضبها واحتواء تقلباتها ومتغيراتها.
حتى الآن كبدت مدخنة آيسلندا خسائر فادحة للاقتصاد الأوروبي حين اضطرت سلطات الطيران إلغاء 95 ألف رحلة جوية بكلفة تفوق المليار دولار. وهذا الثمن يغطي فقط تلك الخسائر المباشرة لشركات النقل الجوي (بشر وبضائع) بينما تبلغ الخسائر غير المباشرة أضعاف المليار إذا أخذ في الاعتبار تعطل كل فروع الاقتصاد المتصلة بحقل المواصلات الجوية. فهناك خسائر فادحة طاولت المطارات وشركات النقل والفنادق والجامعات والمستشفيات والمؤتمرات وما يرافقها من حجوزات ومصروفات.
الرسائل الحامية التي أطلقتها مدخنة آيسلندا تعتبر الأقوى منذ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 لأنها شكلت في مجموعها سلسلة ضربات متعاقبة عطلت حركة الناس ومصالحهم لمدة أسبوع يمكن أن يتمدد إذا واصل البركان قذف تلك الحمم الطبيعية.
هذه القوة العفوية تبدو الدول الكبرى أمامها ضعيفة لأنها من جهة غير قادرة على التعامل معها ولأنها من جهة أخرى لا تستطيع إلا تقبلها وتحملها حتى تهدأ وتستقر. فالطبيعة في هذا المعنى فوق السياسة ومزاجية ولا يمكن ضبطها أو التحكم بها بالتهديد والوعيد أو الإغراء كما هو حال البشر وعلاقاتهم التي تخضع للحسابات العقلية والمصلحية.
صراع الإنسان مع الطبيعة مسألة تاريخية بحثها الكثير من العلماء والفلاسفة ورجال الفكر والاقتصاد وهي كانت ولا تزال مدار دراسة يعاد دائما قراءة قوانينها بعد كل كارثة أو عاصفة أو زلزال أو غضب بركان. والدراسة دائما كانت تصل إلى سؤال من دون جواب: هل يستطيع الإنسان يوما ما التوصل إلى مكان يسمح له التحكم بقوانين الطبيعة؟
هذا السؤال الأبدي لا يزال محط خلاف. فهناك من يرى أن التطور البشري المتسارع والمتلاحق سيؤدي في النهاية إلى نجاح الإنسان في السيطرة على الطبيعة. وهناك من يرى أن تلك القدرة الطموحة جدا لن تحصل يوما مهما نجح الإنسان في تحقيق الاكتشافات والاختراعات والتقنيات باعتبار أن قوانين الطبيعة تتحرك وفق آليات خاصة ومستقلة عن تلك القوانين التي تحرك آليات البشر.
لا شك أن الإنسان حقق إنجازات خارقة للتوقعات في القرون الخمسة الأخيرة التي انطلقت بقوة مع النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر إذ توصلت الدول والشركات والعلماء إلى ابتكار وسائل تقنية متقدمة تحدد أسباب غضب الطبيعة وثورتها وتقلباتها ولكنها فشلت في وضع خطة عمل قادرة على احتواء القوانين التي تتحرك بموجبها تلك الآليات بعفوية ومزاجية.
هذا القصور بين الإنسان والطبيعة أدى إلى تكوين فجوة زمنية تفصل العقل البشري وما يمتلكه من قدرات تسمح له بالتقدم والتطور والتفوق والتحكم والابتكار وذلك ضمن هامش لا يستطيع أن يتعداه ضد الطبيعة.
بركان آيسلندا أعاد التذكير بمجموعة رسائل ينساها البشر في حياتهم اليومية بسبب انشغالهم بالأعمال وما تتطلبه من نظام اتصالات وخطوط مواصلات أصبح استخدامها من الأمور العادية والروتينية ولا تحتاج إلى تفكير بها.فاليوميات التي يعيشها البشر بحثا عن الرزق وتطوير مصادر العيش وتحسين نمط الحياة تمنع الإنسان من التفكير بجمال الطبيعة وما تتعرض له البيئة من اجتثاث وإهمال وعقاب للشواطئ والغابات وإفراط في استخدام ثرواتها ومعادنها من دون حسابات للمستقبل.
علاقة الإنسان بالطبيعة ستبقى مضطربة على رغم أن تقدم البشر حقق سلسلة خطوات باتجاه معرفة القوانين والآليات التي تحرك القشرة الأرضية (الصفائح الزلزالية) والبراكين والعواصف. والاضطراب سيزداد سلبا لا بسبب نجاح الإنسان في التطور وابتكار أدوات تخترق التوقعات وتتجاوز الممنوعات وتهدد التوازن البيئي، وإنما لأن التقدم بحد ذاته يطرح حاجات جديدة على البشر لم يعد بإمكانهم الاستغناء عنها في حياتهم اليومية.
مثال مدخنة آيسلندا يشكل الدليل على حساسية اقتصاد العولمة وهشاشة تقارب الدول ومصالح الشعوب ويؤكد مدى ضعف الإنسان في التعامل مع متغيرات غير متوقعة واحتمالات غير محسوبة. فالطيران الذي أصبح جزءا من حياة البشر في أقل من مئة سنة ونقل الاقتصاد من حقبة البحر(الباخرة) إلى الفضاء وما تفرع عنه من شبكات اتصالات ومواصلات ومعلومات وفضائيات ومطارات وشركات خدمية ونقل البضائع والأيادي العاملة يمكن أن يتعطل فجأة ويعطل معه دورة كاملة من العلاقات والمصالح.
هذا المثال المرئي على الشاشات يؤكد أن تطور الإنسان يطرح على العقل أسئلة تتطلب الرد، وفي الآن يؤشر أن تقدم البشر لن يرفع عنهم المشكلات بل إنها ستزداد بقدر ما تتحسن ظروف الدول والشعوب. فالتقدم ليس بالضرورة يساعد دائما على السيطرة وإنما أحيانا يؤدي في لحظات غير مدروسة إلى فقدان السيطرة واضطراب منظومة العلاقات التي تتحكم بآليات اقتصاد العولمة الفضفاض في انتشاره والهوائي في نموه.
مدخنة آيسلندا طرحت الكثير من التحديات وكشفت عن جوانب من الضعف ومدى تأخر الإنسان في التوصل إلى تحقيق حلم التحكم بقوانين الطبيعة. فالطموح لا يزال في بداياته ويحتاج إلى حقبات زمنية للتوصل إليه إذ بقدر ما يتقدم البشر تتعاظم المشكلات وتظهر في الطريق ما هو غير متوقع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2785 - الأربعاء 21 أبريل 2010م الموافق 06 جمادى الأولى 1431هـ
تعجبني يا وليد كتاباتك
لولاك لكان حال الوسط حال آخر! متمكن في كل شيء ما شاء الله عليك و لك اسلوب جميل.