العدد 2372 - الأربعاء 04 مارس 2009م الموافق 07 ربيع الاول 1430هـ

حين يتقاطع الزمن صعودا وهبوطا يولد الطفل العجوز

التاريخ الأميركي في سيرة «بنجامين باتون»

فكرة رائعة اعتمدها مخرج فيلم «بنجامين باتون» الذي يعرض حاليا في سينما السيف. فالسيناريو السينمائي يقرأ الزمن عكسيا ويحاول بناء دراما تسرد تاريخ الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى في العام 1918 إلى عهد جورج بوش ويتوقف تحديدا حين تضرب عاصفة كاترين مدينة نيواورلينز في العام 2005.

الفكرة تقوم على نظرية تقاطع الزمن صعودا وهبوطا من الطفولة إلى الشيخوخة ومن الشيخوخة إلى الطفولة ... والنهاية في الأخير واحدة: الموت.

تبدأ القصة المفترضة من الخيال ولكن المخرج حاول قدر الإمكان تحويلها إلى وقائع من خلال السرد الروائي وقراءة مذكرات (يوميات) كتبها بنجامين الذي ولد عجوزا، فالطفل العجوز توفيت والدته فور إنجابه والأب الذي انتابه الفزع من المشهد أخذ ابنه العجوز عنوة من المستشفى وتوجه إلى مأوى عجزة وتركه هناك.

المشرفة على المأوى قررت الاحتفاظ بالطفل العجوز لقناعات دينية ظنا منها أنه لن يعيش وربما تكون لولادته تلك الأسباب التي لا تعرف لبني البشر. إلا أن الطفل لا يموت بل يأخذ بالنمو العكسي إذ كلما كبر عمره ازداد شبابه. فابن الثمانين سنة طفل في سنته الأولى وابن السبعين طفل في سنته العاشرة وابن الستين شاب في العشرين من عمره.

هذا النمو العكسي بين الشيخوخة والطفولة يتقاطع زمنيا بين بنجامين الشاب وتلك المرأة التي أحب. فالمرأة الشابة كانت راقصة باليه وتضج بالحياة وهي عادية في تطورها الزمني اذ تنمو كالبشر من الطفولة إلى الشيخوخة. اللقاء يشكل نقطة جوهرية في التقاطع الزمني بين الصعود إلى الأعلى والهبوط إلى الأدنى. فالشاب الغريب يتزوج أمراة طبيعية وينجب منها فتاة هي أقرب إلى الأم منها إلى الأب. ولكن المشكلة التي تجاوزها الإنجاب تحولت إلى معضلة بسبب تقدم الأم إلى سن الشيخوخة وتراجع الأب إلى سن الطفولة الخرفة. وهذا الخلل دفع الأب إلى مغادرة المنزل والغياب هربا من مشكلة العلاقة مع الابنة وخوفا من الخرف وفقدان الذاكرة ووصولا إلى لحظة الولادة والموت.

الفكرة مأسوية ومؤلمة في وقائعها لأنها تروي التاريخ الأميركي في تلك الفترة المحددة من خلال قراءة مذكرات (يوميات) كتبها بنجامين عن حياته الغريبة والمعاكسة للطبيعة البشرية. فالمذكرات تقرأ صفحاتها الابنة بصوت عال للأم العجوز التي كانت تعيش لحظاتها الأخيرة على فراش الموت.

وبين مقطع وآخر تأخذ الصور تشد المشاهد إلى بناء درامي مركب من طورين الأول عادي وطبيعي يتحرك من الأدنى (الطفولة) إلى الأعلى (الشيخوخة) والثاني غريب ومضاد للطبيعة يتحرك من الأعلى (الشيخوخة) إلى الأدنى (الطفولة). ومن خلال الصور والوقائع يمر الزمن الأميركي صعودا وهبوطا. فالشيخ طفل في روحه وشديد الحيوية والحياة والطفل شيخ في روحه وضعيف في نظره وسمعه ومصاب بالخرف وفقدان الذاكرة. الفكرة فعلا ذكية في تعاملها مع الزمن. فمن جانبها الفلسفي تؤكد أن المسألة لن تختلف لأن النهاية واحدة سواء تطور العمر حتى الموت في سن الشيخوخة أو تساقط العمر حتى الموت في سن الطفولة (الولادة). فالزمن في النهاية سيدور دورته ولن يتوقف كما هو حال مأوى العجزة الذي عاش الطفل العجوز حياته الأولى به يسمع ويتعرف على قصص وذكريات كبار السن. والزمن أيضا إذا انقلب ضد دورة الساعة فإن الملاذ الأخير للبشر هو الموت، إذ ينتهي العجوز الطفل به. فالبداية (الطفل العجوز) موصولة في النهاية (العجوز الطفل).

الفكرة في جانبها التاريخي تسرد وقائع الزمن الأميركي وربما كان المخرج يريد أن يرسل إشارات عن واقع الولايات المتحدة التي ولدت بسرعة قياسية زمنيا وتحولت إلى طفل كبير في السن ثم أخذت تتراجع بسرعة لتتحول إلى عجوز مراهق وطفل مصاب بالخرف وفقدان الذاكرة. فأميركا أيضا عجوز في طفولتها وطفولية في شيخوختها.

في كل الحالات تبدو الأمور سائرة نحو الدائرة نفسها. فالبدء (الطفولة) في مأوى العجزة والنهاية (الشيخوخة) في مأوى العجزة. إلا أن المشاهد يخرج بانطباع إنساني يشير إلى أن حياة الناس وتطورهم الزمني الطبيعي يبقى الأفضل والمستحسن لأن الإنسان يعيش زمانه ولحظاته من دون تقاطع متضاد بين الشكل (الجسد) والطبيعة (الروح).

«بنجامين باتون» يحتمل الكثير من الانتقادات بسبب طوله والتطويل المتعمد أحيانا والمضجر في أحيان... إلا أن وقائعه السردية جميلة ومؤلمة حتى لو جاءت النهاية مقلوبة ومعاكسة للطبيعة والزمن.

العدد 2372 - الأربعاء 04 مارس 2009م الموافق 07 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً