ثمة مصالح ومآرب كثيرة يمكن أن تقف وراء إنتاج كراهيات مصطنعة ومزيفة تظهر فجأة، وتختفي بسرعة. غير أن ثمة مصلحة غالبة وتتصدر على بقية المصالح، وأقصد بذلك المصلحة السياسية وتثبيت المواقع ومراكمة المكاسب في لعبة الصراع على السلطة. فإذا حصل أن اقتنعت جماعة سياسية ممسكة بالسلطة بأن بقاءها في السلطة مرهون بإضعاف بقية الخصوم والجماعات السياسية المنافسة، إذا حصل هذا فإن هذه الجماعة لن تتردّد في عمل المستحيل لضمان بقائها في السلطة حتى لو جرّها ذلك إلى الانخراط في لعبة إنتاج الكراهيات المغرضة (أي كراهيات لها غرض معين) وإثارة الفرقة والفتنة وتأجيج الخلافات بين جماعات بعينها من أجل إشغال هذه الجماعات مجتمعة أو منفردة بأمر يهمها ويقلقها ويخرجها عن اتزانها وهدوئها، وذلك ليصفو لها الجو لتحقيق مآرب معينة لم تكن لتتاح الفرصة لتحقيقها دون هذا النوع من إشغال الجماعات وإلهائها وضرب إحداها بالأخرى. فالمطلوب هنا إثارة انفعالات معينة ثم استغلالها لتحقيق غرض ما. وهذا تكتيك شائع في التاريخ، وبحسب نقل الجاحظ فإن «معاوية كان يحب أن يغري بين قريش» وكثيرا ما كان يسعى للوقيعة بين القبائل العربية. وجاء من بعده أبو جعفر المنصور وقد رأى بعض الجند قد «شغبوا عليه وحاربوه على باب الذهب»، وخاف أن يفلت الأمر من بين يديه وينتهي حكم بني العباس بسبب ذلك، فشكا أمره إلى قثم بن العباس بن عبيد الله بن عباس، فقال له قثم: «يا أمير المؤمنين عندي رأي إن أظهرته لك فسد، وإن تركته أمضيته صلحت خلافتك وهابك جندك. قال له: أفتمضي في خلافتي شيئا لا أعلمه؟ فقال له: إن كنتُ عندك متهما فلا تشاورني، وإن كنتُ مأمونا عليها فدعني أفعل برأيي، قال له المنصور: فأمضِه. فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلاما له فقال له: إذا كان غدا فتقدمني وأجلس في دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب فخذ بعنان بغلتي فاستحلفني بحق رسول (ص)، وبحق العباس، وبحق أمير المؤمنين إلا ما وقفت لك وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك وأغلظ لك القول فلا تخف وعاود المسألة، فإني سأضربك بسوطي، فعاود وقل لي: أي الحين أشرف، اليمن أو مضر؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر. ففعل الغلام ما أمره، وفعل قثم به ما قاله، ثم قال: مضر أشرف لأن منها رسول الله (ص). وفيها كتاب الله وفيها بيت الله ومنها خليفة الله. فامتعضت لذلك اليمن إذ لم يذكر لهم شيئا من شرفها، وقال بعض قوادهم: ليس الأمر كذلك مطلقا بغير فضيلة لليمن، ثم قال لغلام له: قم إلى بغلة الشيخ فاكبحها، ففعل حتى كاد يقعيها، فامتعضت مضر وقالوا: يفعل هذا بشيخنا، فأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها، فنفر الحيان. ودخل قثم على المنصور فافترق الجند، فصارت مضر فرقة، وربيعة فرقة، والخرسانية فرقة، فقال قثم للمنصور: قد فرّقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثا فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية، وهي أن تعبر بابنك فتنزله في ذلك الجانب وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك بلدا وهذا بلدا، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك، وإن فسد عليك بعض القبائل ضربتهم بالقبيلة الأخرى، فقبل رأيه واستقام ملكه» (الكامل في التاريخ، ج:5، ص198-199).
وهذا تكتيك شائع في لعبة الصراع على السلطة، وهو شائع، كذلك، في الحروب وإبان الأزمات الكبرى التي تعصف بالمجتمعات والدول. فإذا كانت الدولة في حرب مع عدو قومي أو ديني أو طائفي فإنها تتصور أن من مصلحتها أن تعمل بكامل طاقتها التشغيلية لإنتاج (وحتى فبركة) كراهيات شديدة الانفلات وأحقاد حادة جدا من أجل إلهاب مشاعر شعبها وحماسته المجنونة ضد العدو. وتعرف هذه الدولة جيدا أن الكراهية شعور مجنون ومدمّر ومزلزل ويعمي صاحبه ويصمّه ويخرجه عن هدوئه واتزانه، وهذا ما يجعله مهيئا للانخراط في الحرب التي سوف تتراءى له وكأنها حرب مقدسة ومصيرية ضد عدو جرى شيطنته بالكامل. ولهذا السبب تعمد الدول إلى استثارة الكراهيات المنفلتة في أوقات الحروب. ويبدو أن هذا تكتيك حربي ضروري وجزء من التعبئة النفسية اللازمة لخوض الحروب. والدليل على كونه تكتيكا ضروريا أنه لا تكاد توجد دولة خاضت حربا حقيقية وجدية ولم تعمد، في الوقت ذاته، إلى شَيْطَنَة عدوها وإنتاج كراهيات منفلتة ومؤلمة ضده، بل تصوير هذه الكراهيات المصطنعة كما لو كانت عريقة ومتجذرة وضاربة في عمق التاريخ.
لقد لعبت الحروب، طوال التاريخ، دورا خطيرا في تأجيج نار الكراهيات وإيقاظ النزعات العدوانية الشريرة بين القوميات والطوائف والجماعات الدينية والقبلية والمناطقية. ويمكن التذكير، في هذا السياق، بالكراهيات المصطنعة والمغرضة والتحريضية التي اختلقتها وسائل الإعلام في يوغسلافيا السابقة، «ففي العام 1987 نشرت الصحف الصربية صورة فوتوغرافية التقطها صحافي من بلغراد في بريكالي بكوسوفو، الإقليم الصربي المأهول بأغلبية ألبانية مسلمة]. وتحت عنوان «الأم البريكالية» تظهر في الصورة امرأة صربية تعمل في الحقل محاطة بأطفالها. وكانت بندقية معلقة على منكبها. وكشفت الصحف أن المرأة تحتاج إلى السلاح لحماية نفسها وحماية أطفالها من الإرهابيين الألبان الذين يعذبون الصرب ويقتلونهم ويغتصبون زوجاتهم وبناتهم. وقد أثارت الصورة أصداء إعلامية واسعة وروّعت صربيا بأسرها. وأسفرت مئات الصور المماثلة والمقالات الصحافية وساعات من البرامج التلفزيونية بأنباء حول اضطهاد الصرب في كوسوفو، عن إرهاب عمّ البلاد وكراهية لألبان كوسوفو. وبعد بضع سنوات اتضح أن الصورة تزوير ذكي قام به الصحافي الذي هو نفسه من وفّر البندقية المعلقة على كتف المرأة. وكان كل شيء قد انتهى حينذاك. فالدعاية على هذا النحو أدت الغرض المطلوب منها». وهذا مجرد مثال من بين أمثلة كثيرة يمكن أن تستقى من إرشيف الكراهيات التحريضية المصطنعة التي غالبا ما تؤدي غرضها المطلوب في كل مرة. والله وحده يعلم حجم الكراهيات المصطنعة التي اختلقها صُنّاع الكراهية وتجارها إبان الحروب أو في الفترة التي تسبق الانزلاق إلى الحروب وتهيئ الأجواء المناسبة لهذه الخطوة. لا أحد يعرف، على وجه اليقين، حجم الكتب والصور والتسجيلات المزيفة التي جرى تلفيقها لإلهاب الكراهية المصطنعة بين الإيرانيين والعراقيين (وعرب المشرق من ورائهم) إبان الحرب الإيرانية/العراقية في ثمانينيات القرن الماضي، أو بين الهنود والباكستانيين منذ العام 1947، أو بين الهوتو والتوتسي في تسعينيات القرن الماضي، أو بين المسلمين والمسيحيين النيجيريين في جوس في دورات العنف المتجدد في الأعوام 2001 و2008 و2010.
يحدث هذا في الحروب العسكرية المسلّحة، كما أنه يحدث في نوع آخر من الحروب، وهي الحروب الناعمة أو الباردة التي تشتعل من تحت الرماد. وهنا يمكن التذكير بالكراهيات التحريضية المصطنعة التي جرى إنتاجها طوال الحرب الباردة بين كتلة البلدان الشيوعية، وكتلة البلدان الغربية الرأسمالية والليبرالية. كما يمكن التذكير بالكراهيات التحريضية التي يجري إنتاجها في منطقتنا بين الأميركيين وحلفائهم من جهة، والإيرانيين وحلفائهم من جهة أخرى، وذلك منذ قيام الثورة في إيران في العام 1979، وهي الكراهيات التي ازدادت سخونة منذ سقوط النظام السابق في العراق بحيث جرى توفير كامل الدعم اللوجستي والإعلامي اللازم لصناعة الكراهية الطائفية في المنطقة سواء كان ذلك عبر طباعة كتب أو تلفيق صور وتسجيلات صوتية أو تركيب لقطات فيديو أو تجيير صحف وإذاعات ومحطات فضائية بأكملها من أجل بث هذه الكراهيات المصطنعة.
وقد تنبّه نيتشه إلى شكل قديم من هذا التكتيك الذي كان يجري بين الدول، وذلك حين كتب بأن رجل الدولة قد يثير «انفعالات شعبية كي يستفيد من الانفعال المضاد الذي ينتج عنها. لنأخذ مثالا: يعرف رجل الدولة الألماني جيدا أن الكنيسة الكاثوليكية لن تكون لها أبدا نفس المشاريع التي تكون لروسيا، بحيث إنها ستفضل حتى التحالف مع الأتراك على التحالف مع روسيا، إنه يعرف، من جهة أخرى، أن خطر تحالف روسيا وفرنسا يشكّل تهديدا لألمانيا. إن استطاع إذن أن يتوصّل إلى جعل فرنسا مقرّا للكنيسة الكاثوليكية ومعقلا لها فإنه سيكون قد أبعد الخطر لمدة طويلة. من مصلحته بالتالي أن يبدو شديد الحقد على الكاثوليك وأن يلجأ إلى أعمال عدوانية من كافة الأشكال كي يحوّل البابويين إلى قوة سياسية منفعلة تكون معادية للسياسة الألمانية وسيكون عليها بالطبع أن تمزج بين قضيتها وبين قضية فرنسا، عدو ألمانيا. سيكون من أهداف هذا الرجل كذلك جعل فرنسا كاثوليكية (...) هكذا تريد دولةٌ تعتيم ملايين العقول في دولة أخرى لتستفيد من ذلك» (إنسان مفرط في إنسانيته، ج:1، ص199).
وما يجري في الحروب بين الدول يجري في نوع آخر من الحروب داخل الدولة الواحدة. تلك هي السياسة التي عرّفها أحدهم بأنها حرب بوسائل أخرى، حرب تكشف عن نفسها في ساحات التنافس السياسي والصراع على السلطة، إلا أنها، كأي حرب، موسومة، دوما، بالتوتر والشراسة والضراوة في المواجهة والمدافعة. وداخل هذه السياقات الحربية، أصبحت إثارة الكراهيات المصطنعة واحدة من التكتيكات الشائعة في لعبة الصراع على السلطة، وذلك بهدف الإشغال العام وإثارة البلبلة والتشويش والتغطية وتشتيت انتباه الناس والرأي العام عن قضية محددة أو فضيحة معينة، أو بهدف استفزاز بعض الخصوم لتحقيق غرض ما من وراء هذا الاستفزاز.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2783 - الإثنين 19 أبريل 2010م الموافق 04 جمادى الأولى 1431هـ
أصحاب الفتنة في كل مكان وزمان
أصحاب الفتنة في كل مكان وزمان من أيام معاوية والمنصور إلى اليوم
مازال معاوية وابوجعفر المنصور بيننا
الذي فعله معاوية وابو جعفر المنصور يتكرر عندنا هذه الايام ويمكن ان نغير الاسماء فقط وسياسة فرق تسد سياسة معروفة
الى متى
لن تجد لو بحثت في ثنايا التاريخ البشرى والأحداث المرتبطة بالحراك الإنساني كراهية اكبر مما بحمله شعب أمن صحي ذات صباح ليدرك انه محاط بمئات الآلاف من المجنسين في المدن والقرى ويتربصون بالمواطنين الدوائر ويحيكون المؤامرات لهم في خلايا في كل المرافق بدون أي ذنب ارتكبه هذا الشعب إلا تركيبته الديمغرافية التي لا سلطة له عليها