أصدرت وزارة الخارجية الأميركية في نهاية فبراير/ شباط 2009 تقريرها الخاص بحقوق الإنسان للعام 2009 في العالم، والذي ورد فيه تقييما - من وجهة النظر الأميركية - لأوضاع حقوق الإنسان في مختلف دول العالم. وكما هو متعارف عليه، وتنفيذا لأحكام الأقسام 116 (د) و502 (ب) من قانون المساعدات الخارجية للعام 1961 الأميركي، ترفع وزارة الخارجية هذا التقرير إلى الكونغرس الذي، يقوم بدوره، وبناء على أحكام التقرير بشأن «مستوى التزام هذا البلد أو ذلك بقيم وقوانين حقوق الإنسان»، في توجيه الحكومة الأميركية في تحديد المساعدات الخارجية التي تقدمها واشنطن لتلك الدول.
وتبدو الصورة العامة رسمها التقرير قاتمة بعض الشيء، إذ يخلص التقرير إلى «تدهور أوضاع حقوق الإنسان في عدد من دول العالم خاصة منها إيران وهونغ كونغ والصين».
وعلى المستوى العربي، بينما اعتبر التقرير أن «احترام حقوق الإنسان في مصر مازال ضعيفا وأن الانتهاكات جسيمة في هذا المجال»، نجده يشيد بتحسن «حقوق الإنسان في العراق إلى حد كبير في العام 2008»، ملقيا باللوم على «استمرار العنف في بعض المناطق والفساد والخلل التنظيمي»، لتبرير عدم «قدرة الحكومة على حماية حقوق الإنسان بشكل أفضل».
تفاوتت ردود الفعل العالمية من هذا التقرير، فبينما جاء رد هونغ كونغ دفاعياَ وهادئا، محاولا إثبات حرص هونغ كونغ على الارتقاء بمقاييس احترام حقوق الإنسان فيها، كما جاء على لسان المتحدث باسم حكومة منطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة، حين شدد على أن بلاده «ملتزمة بحماية حقوق الإنسان ولديها إطار مؤسسي شامل لحماية الحقوق والحريات المختلفة»، نجد الرد الفنزويلي قاسيا، إذ يعتبر البيان الرسمي الصادر عن كاركاس أن هذا التقرير «زائف ويتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى».
تتصاعد الانتقادات لذلك التقرير كي تصل ذروتها فيما جاء على لسان المكتب الإعلامى لمجلس الدولة الصيني الذي وصف الموقف الأميركي «كمن يقذف الآخرين بالأحجار فيما يعيش هو فى بيت من زجاج».
ويكشف الرد الصيني بالأرقام مدى انتهاكات واشنطن لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة ذاتها. فوفقا للرد الصيني تعرض ما يقارب من «1.35 مليون طالب فى المدارس الثانوية في العام 2007 لتهديد أو أصيبوا بجروح بأسلحة فى المدرسة مرة على الأقل»، محذرا من أن «التفرقة العنصرية تسود في كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية في الولايات المتحدة بدءا من الدخل، والتوظيف، والتعليم إلى النظام القضائي، وعادة ما يكون أغلب ضحاياه من الأميركيين الأفارقة، إذ يبلغ معدل البطالة بين السود 10.6 في المئة في الربع الثالث من العام 2008، وهو ضعف معدل البيض، وأن معدلات تخرج الأميركيين السود من المدارس الثانوية والتحاقهم بالجامعات مازال متخلفا عن معدلات البيض منذ «عقدين أو ثلاثة»، وأن الطلبة الأميركيين السود بالمدارس الحكومية «يعاقبون بدنيا أكثر من الطلبة البيض».
وبعيدا عن موقف الدول، يمكننا أيضا أن نستشهد بتقارير موثوق بها عالميا عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان، فلو عدنا إلى المقدمة التي كتبها المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس ووتش كينيث روث، في تقرير المنظمة للعام 2009، سنجده يطالب «الولايات المتحدة والحكومات الأخرى التي تزعم دعمها لحقوق الإنسان» أن تتخذ مواقفا صريحة وإجراءات واضحة، إن هي أرادت «أن تسترجع زمام مبادرة حقوق الإنسان من الحكومات المُفسدة التي تعارضها بصورة فعالة وبقوة في الوقت الجاري».
ثم يعود روث كي يطالب بوضوح الإدراة الأميركية الجديدة برئاسة باراك أوباما أن «تعيد التفكير جذريا في كيفية مكافحة الإرهاب وسياسات التغاضي عن انتهاكات الحكومات القمعية لمجرد أنها تُرى على أنها حليفة في مكافحة الإرهاب».
ولا ينسى روث أن يشير بأصابع الاتهام إلى إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الذي لم يتردد في سياق تبريرها الواهي للدفاع عن حقوق الإنسان تحت مبررات مكافحة الإرهاب، في أن تضرب عرض الحائط أبسط مقومات حقوق الإنسان، وانساقت، تحت مظلة ذلك التبرير، في ممارسات لا إنسانية «مثل التعذيب والاختفاء القسري والاحتجاز دون محاكمة».
هذه الصورة تكشف بوضوح أن الولايات المتحدة أبعد ما تكون عن مراعاة حقوق الإنسان سواء في سياساتها الداخلية أو في تحالفاتها الخارجية. فعلى المستوى الداخلي تفضحها سياسات التمييز العنصري التي تمارسها بحق المواطنين الأميركان المنحدرين من أصول غير بيضاء، وعلى المستوى الخارجي، تحرجها تحالفاتها مع الكثير من الدول التي تحرص واشنطن على «تبييض صفحتها» وتبرير انتهاكاتها لحقوق الإنسان، طالما استمرت تلك الدول في تقديم الدعم الذي تحتاجه واشنطن، سواء كان هذا الدعم سياسي أم اقتصادي.
لذلك لا تتردد واشنطن في الرقص مع أي حليف خارجي، والتغاضي عن كل انتهاكاته لحقوق الإنسان، على المستويين الداخلي في نطاق ذلك البلد الحليف، أو الخارجي، في نطاق سياسات أميركا الخارجية.
قائمة طويلة بتلك التحالفات يمكن لن نسوقها، لكننا نكتفي بالإشارة إلى «إسرائيل» عند الحديث عن التحالفات السياسية، وبعض دول الأوبك عند استحضار الجانب الاقتصادي.
ذلك لا ينبغي أن يقودنا إلى استنتاج مفاده الدفاع عن أي ممارسات من شأنها انتهاك حقوق الإنسان تقدم عليها أي من دول العالم، بمن فيها تلك الدول التي انتقدها التقرير الأميركي. لكن القصد من وراء كل ذلك تعرية الموقف الأميركي المصر على الظهور بموقف المدافع عن حقوق الإنسان، وليس تقرير وزارة الخارجية إلا أحد الأدلة على صدق ما نقول.
لذلك فإن كان هناك من دول عليها مراجعة سياساتها بشأن انتهاك حقوق الإنسان، فلربما تكون أميركا في طليعة تلك الدول، دون أن يستثني ذلك الآخرين من الجرائم التي يرتكبونها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2371 - الثلثاء 03 مارس 2009م الموافق 06 ربيع الاول 1430هـ