العدد 2371 - الثلثاء 03 مارس 2009م الموافق 06 ربيع الاول 1430هـ

الاستيطان وتقويض الدولة الفلسطينية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل يمكن التوفيق بين مشروع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية وحلم الدولة الفلسطينية المستقلة «القابلة للحياة»؟ التوفيق مستحيل عمليا في اعتبار أن خطة التوطين سياسة ميدانية تعتمدها الحكومات الإسرائيلية لتغيير هوية الأراضي المحتلة منذ العام 1967 بينما حلم الدولة مجرد فكرة يتم تداولها نظريا وفي إطار دبلوماسي محدود ومفتوح على تفسيرات وتأويلات غير متوافقة على تحديد الإطار الجغرافي والمساحة السكانية ووظيفة السلطة.

الاستحالة في التوفيق بين الفعلي والنظري تؤشر إلى وجود نمو في درجات الخطر ما يرفع من صعوبات احتمال التوصل إلى تسوية في القريب العاجل. فالخطر متدحرج ويمتد جغرافيا وزمنيا وهو مرشح للنمو وخصوصا إذا واصلت الحكومات الإسرائيلية تكتيك التهرب من القرارات الدولية والتذرع بوجود معضلات يتم تحميل مسئوليتها للطرف الفلسطيني. كل يوم يمر على الاحتلال يضيف جزئية صغيرة على مشكلة تتطور عموديا وأفقيا منذ 42 سنة. فالاحتلال نجح في توطين 300 ألف مهجر في مناطق مختلفة في الضفة الغربية وقام بطرد وتهجير وتجريف أحياء عربية ومئات المساكن في القدس وأسكن نحو 300 ألف مستوطن في المدينة المحتلة. الآن يخطط الاحتلال إلى هدم 200 منزل في ضواحي القدس وبناء 73 ألف وحدة سكنية في الضفة ما يهدد برفع المستوطنين إلى الضعف في السنوات المقبلة. وفي حال حافظ المشروع الاستيطاني على حركته الميدانية بهذا الزخم سيواصل حلم الدولة الفلسطينية تراجعه لمجموعة أسباب منها ما يتعلق بالسياسة وموازين القوى ومنها ما يتصل بالاقتصاد والهوية السكانية.

مسألة الهوية تشكل مفتاح الأزمة والمدخل الذي يمكن أن تتذرع تل أبيب به للتنصل من كل وعودها وتعهداتها وتلك الاتفاقات التي وقعت عليها منذ تفاهمات أوسلو. فالهوية التي اشتغلت تل أبيب على تعديل توازنها الديموغرافي باعتماد سياسة التجريف ومصادرة الأراضي وتقطيع الأوصال والتوطين بدأت تظهر معالمها السكانية ميدانيا. وهذا المتغير الديموغرافي الذي يمتد جغرافيا ويتطور أفقيا (بناء مستوطنات) وعموديا (توسيع مستوطنات) أخذ يعدل جزئيا ونسبيا التوازن السكاني بين الشعب الفلسطيني والمجموعات المهاجرة (أو المهجرة) من مختلف أنحاء العالم. وتعديل التوازن السكاني سيؤدي لاحقا إلى تعطيل فكرة «الدولة الفلسطينية» وسيرفع من درجة التوتر الأهلي ما يؤشر إلى احتمال انزلاق الضفة إلى تصادم بين الكتلتين البشريتين.

احتمال التصادم الأهلي ليس مستبعدا ويرجح أن تخطط تل أبيب له في المستقبل حتى يشكل ذريعة إضافية تبرر رفض مشروع التسوية والانسحاب. والاحتلال يعلم ماذا يفعل ويدرك سلفا أن مصير الضفة الغربية يتجه في النهاية نحو المواجهة الأهلية بين أصحاب الأرض وتلك المجموعات المستقدمة للتوطين في محيط المدن وعلى التلال والمرتفعات المطلة على البلدات والقرى المطوقة بالثكنات والحواجز والموانع وجدار الفصل العنصري.

احتمال المواجهة الأهلية مسألة واردة وهي لا تختلف كثيرا في عناصرها الميدانية عن تلك الاصطدامات المسلحة التي جرت تباعا في عشرينات وثلاثينات وأربعينات القرن الماضي في ظل الانتداب البريطاني وأشرافه. فالانتداب كان يعلم ماذا يفعل وكان يدرك سلفا أن مصير فلسطين يتجه نحو التقسيم بين دولة عربية ودولة يهودية في حال واصل مصادرة الأراضي وتشجيع «الوكالة اليهودية» على استملاكها وتوطينها بالمهاجرين حتى يتذرع لاحقا بالانقسام الأهلي ويطالب مجلس الأمن الدولي بتوزيع المناطق على الكتلتين البشريتين.


سيناريو الانتداب - الاحتلال

خطة الاستيطان التي يعتمدها الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقدس لا تختلف في مسارها الجغرافي - السكاني عن تلك الخطة التي اعتمدها الاستعمار البريطاني لفلسطين منذ العام 1918 إلى العام 1948. فخلال 29 سنة نجح الانتداب في إعادة هيكلة المؤسسات وبناء مواقع استيطانية امتدت من الشمال إلى الجنوب وفق هندسة عمرانية (كيبوتزات) جمعت بين الطابع الاقتصادي (مزارع، تعاونيات، مراكز إنتاج) والحصن العسكري (ثكنات، معاهد تدريب، منظمات مسلحة، ميليشيات مؤهلة للدفاع والهجوم).

أدى التوطين المدروس جغرافيا وعسكريا الذي اعتمده الانتداب بالتعاون مع «الوكالة اليهودية» على امتداد ثلاثة عقود إلى تغيير أجزاء واسعة من الهوية الفلسطينية وبدأت الأحزاب الصهيونية تتحرك مستفيدة من تعديل الخريطة السكانية للمطالبة بسلطة خاصة (حكم ذاتي) تتجانس مع التكوين الثقافي للتجمعات المختلفة في تقاليدها وعاداتها وطقوسها وأنماط حياتها وعيشها. والأدهى من ذلك ادعت المنظمات الصهيونية في نهاية أربعينات القرن الماضي أنها تخوض «حرب استقلال» ضد الانتداب البريطاني وأخذت تضغط دوليا للمطالبة بدولة مستقلة تحت بند «حق الشعوب في تقرير مصيرها». والطريف في موضوع «تاريخ الدولة العبرية» أن حكومات تل أبيب تدعي الآن أنها نالت استقلالها من طريق الكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار البريطاني وليس ضد الشعب الفلسطيني.

تزوير التاريخ جاء بنا على تزوير الجغرافيا وتأسس عمليا على معادلة تغيير الهوية وتعديل التوازن الديموغرافي السكاني. وهذه الخريطة من التزوير التي اعتمدتها المنظمات والأحزاب الصهيونية في أربعينات القرن الماضي لا يستبعد أن تعيد حكومات تل أبيب إنتاجها في مطلع القرن الجاري. فالسيناريو متشابه ولا يختلف كثيرا عن تلك الحيثيات الدرامية التي تأسست عليها مجموعة أكاذيب وتشويهات أنتجت في النهاية «دولة إسرائيل» في 60 في المئة من أرض فلسطين. والآن تخطط حكومات تل أبيب سلسلة مشروعات إسكان وتوطين بهدف تهويد دولة «إسرائيل» متذرعة بتلك العينات (المستوطنات) المنتشرة في طول وعرض الضفة.

40 في المئة من الأراضي الفلسطينية المحتلة بدأت تتآكل جغرافيا وبشريا منذ العام 1967 في وقت أخذت تل أبيب تطرح بوضوح مشروع «التهويد» مستفيدة من ذاك التأييد اللفظي الذي أعلنه رسميا الرئيس الأميركي السابق جورج بوش خلال زيارته «إسرائيل» في 15 مايو/ أيار 2008 بمناسبة ذكرى استقلالها. والكلام عن «يهودية» الدولة لم يطلق عشوائيا وإنما جاء في سياق الرد على خطة إنشاء دولة فلسطينية موازية للدولة العبرية. ولكن فكرة «الدولتين» التي تقول بها إدارة باراك أوباما أيضا بدأت ترسم علامات استفهام عن جدواها ومدى جديتها في حال استكملت تل أبيب سياسة الاقتلاع والهضم والتوسع السكاني أفقيا وعموديا. فهل يمكن أن تقوم دولة مستقلة وذات سيادة و«قابلة للحياة» في حقل مزروع بالألغام البشرية؟ وكيف يمكن أن تتعامل السلطة الفلسطينية مع عشرات المستوطنات ومئات آلاف المستوطنين؟ وما هي الشروط المدنية المطلوب من الدولة الفلسطينية أن تتبعها في التعاطي اليومي مع مجموعات أهلية موزعة جغرافيا وتتحكم عسكريا بكل الممرات والمعابر والمخارج والمداخل التي تربط وتفصل الضفة عن الأردن وأراضي 1948 وقطاع غزة؟

أسئلة كثيرة تطرح على بساط التداول الدبلوماسي بشأن جغرافية «الدولة الفلسطينية» ومساحتها وموقعها ودورها ووظيفتها. ومجموعة تلك الأسئلة لا يمكن عزلها عن مسألة الهوية السكانية للدولة ومدى صلتها القانونية بمشروع يهودية «إسرائيل» وما يعنيه من دلالات سياسية وثقافية.

هناك مخاطر فعلية بدأت ترتسم ميدانيا لإلغاء حلم الدولة الفلسطينية حتى على ما تبقى من أراض محتلة. والمشروعات الاستيطانية التي لم تتوقف منذ 42 سنة أصبحت تطرح أسئلة لا بشأن تفكيكها وإعادة توزيع سكانها فقط وإنما بدأت تثير علامات استفهام عن هوية «الدولة الفلسطينية» مقابل «يهودية دولة إسرائيل». فالاستيطان فعليا يعطل الحلم ويقوض الدولة الموعودة ويعيد تشكيل الفكرة باتجاه أهلي يهدد الهوية الفلسطينية ويعرضها إلى مواجهات مسلحة لن تكون ملامحها بعيدة عن كابوس النكبة في العام 1948.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2371 - الثلثاء 03 مارس 2009م الموافق 06 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً