إن أية محاولة لتحديد الاتجاه الذي يحكم مسيرة الثورة الرقمية يقود تلقائيا نحو ركيزتها الأساسية وهي ما أصبح يعرف بالاقتصاد الرقمي. ففي ضوء التطورات السريعة والتحولات الكبيرة في مجالات تقنيات المعلومات والاتصالات، وما يرافقها من قفزات سريعة في وتائر الانفتاح بين الأسواق العالمية، دون استثناء المحلية منها، وتزايد نفوذ وسيطرة قوانين وآليات العولمة، بشقيها السلبي والإيجابي، تتجه الأنظار نحو ذلك الاقتصاد بوصف كونه النواة التي ستدور في فلكها الثورة الرقمية. ولابد من التأكيد هنا على تلك المكانة المميزة الإستراتيجية التي تحتلها الشبكة العنكبوتية العالمية (الويب)، سوية مع مراسم الاتصالات ذات العلاقة بشبكة الإنترنت في تلك النواة، بوصف كونها المحرك الرئيس لآليات ذلك الاقتصاد.
كما لابد لنا هنا أيضا من التمييز بين وسائل وأساليب الإنتاج في الاقتصاد الرقمي عنها في الاقتصاد الكلاسيكي، حيث أصبح، كما ترى «مجلة العالم الرقمي الإنتاج» أنه في حين «يعتمد الأول على المعرفة وليس على العمالة، وعلى إشارات ورموز وليس على مواد أولية رخيصة، ولا يبدأ الإنتاج في الاقتصاد الرقمي في المصنع وينتهي فيه، بل امتد الإنتاج إلى عمليات ما بعد البيع، بالإضافة إلى التحول من العمل الجهد العضلي إلى العمل الذهني، حيث تتحوّل معظم الأعمال العضلية إلى أعمال ذهنية. مثال ذلك أصبح العامل الذي يقوم بفك أجزاء الماكينة للبحث عن الأعطال وصيانتها يلزمه في الاقتصاد الرقمي استخدام التقنية لتحديد الأعطال وما إذا تحتاج إلى تدخل الجهد العضلي».
ولعل أفضل من تناول الاقتصاد الرقمي كما يقول عبدالناصر عبدالعال «هما دروكر و فاريان (Drucker و Varian)» اللذين «كانت لكتاباتهما الفضل في تحديد معالم الاقتصاد الرقمي»، الذي ساهم - حسب تحليلاتهما - «بالرغم من حداثته بنسبة كبيرة من الناتج القومي للدول الأكثر تقدما، في حين تضاءلت مشاركة القطاعات التقليدية كالرعي والزراعة والصناعة في ناتجهم المحلي». وتلمسا في مرحلة مبكرة من بروز الاقتصاد الرقمي على «انعكاس تطبيقات هذا الاقتصاد على طبيعة بيئة أعمال الشركات؛ فلم تعد المنافسة بين الشركات هي المصدر الأساسي لتهديد وجودها واحتل هذا الدور الآن جهود القرصنة على البرمجيات والشبكات التي يقوم بها الأفراد. كما ساهم في خلق وظائف ودخول عبر توليد الإشارات الإلكترونية ونسخ البرمجيات ونشر المعرفة».
ويشير عبدالعال إلى ميزة يتفرد بها الاقتصاد الرقمي عن الاقتصاد التقليدي وهي «تزايد أهمية ودور العائدات غير المباشرة الإيجابية أو ما يعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ «Economic externalities، وهي المنافع أو الأضرار غير المباشرة التي تعود على الآخرين عندما يستخدم فرد ما منتجا أو سلعة معينة».
وبعد أن ميّزنا بين الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الكلاسيكي، لابد لنا من التوقف عند ذلك الخلط بين المفاهيم عند تناول الاقتصاد الرقمي، حيث يساوي البعض بين الاقتصادات التالية: الاقتصاد المعرفي، الاقتصاد الرقمي، الاقتصاد المبني على التشبيك. لاشك أن هناك عامل مشترك واحد تشترك فيه تلك الاقتصادات والذي هو الدور الذي تمارسه ثورة تقنيات المعلومات والاتصالات في تحريك آلياتهم جميعا، لكن هذا لا يمنع من رؤية بعض الفروقات، وإن كانت طفيفة وغير مؤثرة نوعيا في تلك الاقتصادات.
وللتدليل على صحة ما نذهب إليه، يمكننا الاستعانة بمقالة ثرية بالمعلومات والتحليلات، نشرها سعد علي الحاج بكري على موقع (http://www.almarefh.org/news.php?action=show&id=1909 )، نجح في التمييز بين الاقتصاد المعرفي والاقتصاد الرقمي، دون أن يفقد القدرة على تشخيص العوامل المشتركة بينهما. يقول بكري في ذلك المقال «إن الاقتصاد الرقمي، هو ذلك الجزء من اقتصاد المعرفة الذي يختص بكل ما يتعلق بتقنيات المعلومات، التي تُعرف أيضا بالتقنيات الرقمية. وعلى ذلك فإن تعبير اقتصاد المعرفة يستوعب في مضمونه تعبير الاقتصاد الرقمي، بمعنى أن اقتصاد المعرفة يتمتع بمدى أوسع. ومع ذلك فإن اقتصاد المعرفة بمفهومه المعاصر لا يتحقق دون التقنيات الرقمية، أي دون الاقتصاد الرقمي. فهذا الاقتصاد يمثل قاعدة رئيسة لاقتصاد المعرفة الحديث». هذا ما يجعل الاقتصادين (المعرفي والرقمي ) يلتقيان عند سلع المكونات الرئيسية لهما، وهي كما يرد في العدد: 1378، من «الحوار المتمدن» : «المعارف العلمية: التقنية الفنية الإبداعية السياسية التاريخية، والمعارف الأكاديمية، من تبادل المعارف الأكاديمية عبر الجامعات، وكذلك المعارف الإعلامية، في كل ما يختص بإيصال الأخبار والإعلان بكافة أشكاله».
وهناك من يحاول من أمثال المستشار الإقليمي في العلم والتكنولوجيا في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا محمد مراياتي أن يجمع بين الاثنين: الرقمي والمعرفي في إطار شامل واحد يطلق عليه الاقتصاد الجديد، الذي يحدد مراياتي أبرز معالمه في المكونات التالية: «المعرفة شكل أساسي من أشكال رأس المال، يبني تراكمها النمو الاقتصادي، وتتحول التكنولوجيات الجديدة إلى منطلقات أساسية لسلسلة من الابتكارات التي تؤدي لتزايد معدلات النمو، وتزيد التكنولوجيا ( خلافا للنظرية التقليدية التي تتوقع الانخفاض في عائد الاستثمار مع الزمن) من عائد الاستثمار وهذا يؤدي لاستدامة النمو، وتمارس حقوق الملكية الفكرية (عكس النظرية التقليدية التي تؤمن بـ (التنافسية المثالية الكاملة)، دورها في دفع رأس المال نحو الاستثمار في التطوير والتنمية (R&D)».
تأسيسا على ذلك تتجه الثورة الرقمية، أساسا نحو بلورة نمط اقتصادي جديد هو الاقتصاد الرقمي، الذي، كما وصفناه يعتمد أساسا على القيمة المضافة التي تولدها النشاطات الذهنية، وكل ما يدور في فلكها من ملكية فكرية، وليس الكميات الضخمة التي تنتجها الأراضي الزراعية، أو السلع الكبيرة التي تقذف بها المصانع التقليدية، وفوق هذا وذاك ليست ملايين البراميل النفطية التي تقذف بها الاقتصاديات الريعية. لكن ذلك لا يعني إطلاقا أن أيا من اقتصادات المنتجات الثلاثة المشار لها غير قادرة، متى ما توافرت الإرادة السياسية، على أن تؤسس لاقتصاد رقمي متطور يجعل البلاد تتجه متناغمة مع توجهات الثورة الرقمية وليس في اتجاه مضاد لها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2780 - السبت 17 أبريل 2010م الموافق 02 جمادى الأولى 1431هـ