العدد 2779 - الجمعة 16 أبريل 2010م الموافق 01 جمادى الأولى 1431هـ

منهجية هيغل وتطور علم التاريخ

نشوء النخبة الأوروبية (9)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ساهمت مجموعة روافد في التجمع لتشكيل منظومة هيغل الفلسفية. فالتطور الذي أخذ ينتشر في القارة أنتج سلسلة اختراعات واكتشافات وتقنيات لعبت دورها في تسهيل حصول الباحث على معلومات تساعده على تحديث مصادره واجتهاداته.

هيغل استفاد من المعارف ونجح في التعامل معها مبتكرا منهجا في قراءة آلياتها الداخلية وإعادة ربطها في سياق تطوري مبرمج وصولا إلى الغاية: الحرية.

آنذاك في مطلع القرن التاسع عشر توصل الألماني فريدريك سرتورنر إلى اختراع المورفين في العام 1803 ما ساهم في تطور الجراحة وعلم التشريح الأمر الذي ساعد على التوصل إلى التعرف على الكثير من المعلومات بشأن جسد الإنسان وآلياته. كذلك نجح الإنجليزي جورج ستيفنسون في تطوير القطار في العام 1825 مستفيدا من آلة واط البخارية. وأدى تطور حركة القطار إلى تحسين سكك الحديد وإطلاق موجة متقدمة في عالم النقل والمواصلات. وفي العام التالي نجح الفرنسي جوزيف نيبس في اختراع الكاميرا ونجح في العام 1826 في التقاط أول صورة فوتوغرافية في التاريخ.

لم يقتصر التقدم على المستوى العلمي (اختراعات واكتشافات) وإنما تطور ليشمل فروع المعرفة وحقل السياسة. معرفيا أخذت الاكتشافات الجغرافية تؤتي ثمارها الثقافية والعقلية حين بدأت النخبة (الرحالة) تترجم الكتب القديمة وتنقل إلى اللغات الأوروبية الفلسفات الشرقية (الصين، الهند، بلاد فارس والعرب) وتستفيد منها في قراءة التاريخ العالمي للبشر. وسياسيا دخلت أوروبا فترة من الاستقرار بعد توقيع معاهدة فيينا في العام 1815 وهي وثيقة ستدخل أوروبا في سلام نسبي سيستمر متقطعا إلى العام 1848.

كل هذه المنعطفات ستعطي النخبة الأوروبية دفعة قوية للتحرك بسرعة إلى الأمام وإنجاز منظومات فكرية سيكون لها تأثيرها المباشر على تكوين قواعد جديدة للتحليل والتركيب والاستنتاج. ففي تلك المحطة التاريخية ستشهد أوروبا حرب أفكار بين النخبة وضد المؤسسات الأكاديمية. فيخته (1762-1814) سيتجه نحو مخاطبة الأمة الألمانية للتوحد. سان سيمون (1760-1825) سيندفع باتجاه إنتاج اشتراكية - مسيحية (مثالية) سيكون لها وقعها الخاص على التيارات العمالية التي بدأت تنهض في ضوء نمو الصناعة الحديثة. شارل فورييه (1772-1837) سيقوم بتأسيس منظومة اشتراكية مثالية سيكون لها أنصارها في القارة (الاشتراكية الرومانسية). وجيري بنثام (1748-1832) سيعمد إلى إطلاق نظرية علمية اشتهرت بالفلسفة النفعية ما سيكون لمذهبها تأثيرات خاصة شجعت رجال الدولة على الأخذ ببعضها لتحسين الضمانات الاجتماعية والصحية والتعليمية للفئات المنتجة الأمر الذي ساهم دستوريا في تطوير القوانين المعمول بها آنذاك في بريطانيا.

هيغل لم يكن خارج الصورة. فهو سيبتكر على طريقته الخاصة منظومة فلسفية مستفيدا من كل هذه التحولات التي عصفت بالقارة. ولد هذا الفيلسوف في شتوتغارت في العام 1770 من طبقة وسطى على المذهب البروتستانتي - اللوثري. والده موظف صاحب دخل محدود، وشقيقه ضابط في الجيش قتل في العام 1812، وهو درس اللاهوت ليصبح قسيسا (رجل دين) ما أعطاه فرصة لتعلم اللغات القديمة والاطلاع على الفلسفة اليونانية.

آنذاك كانت ألمانيا فقيرة ومتخلفة وممزقة إقطاعيا ما جعله يعيش فترة قلقة في شبابه اضطره إلى متابعة الأخبار وقراءة الصحف اليومية. وحين بلغ العشرين من عمره انحاز إلى الثورة الفرنسية ودعم شعاراتها وأخذ بقراءة روسو والاطلاع على فلسفة الأنوار والاتجاهات التنويرية التي عرفتها القارة.

عاصر هيغل في فترة شبابه كانط وفيخته، وصاحب الشاعر هولدرلين والفيلسوف شيلنغ (1775-1854) الذي سيكون له الفضل بتعريفه على الحضارات الشرقية وما أنتجته من حكايات وأساطير وروايات عن الحياة والكون والإنسان.

بدأ هيغل حياته الفكرية متواضعا وتأخر عن أصحابه في تأليف المقالات والدراسات. واستمر كذلك إلى أن انتقل إلى برن (1793-1796) وفرانكفورت (1797-1780) وبدأ بتعميق اطلاعاته على الديانات القديمة وكتب بشأنها مقالات لم تنشر في حياته. وبعدها انتقل إلى جامعة يينا وما كاد يصل حتى غادرها فيخته بسبب اتهامه بالإلحاد. ومن تلك اللحظة بدأ نجم هيغل يسطع في سماء الفلسفة وخصوصا بعد مصادقته شيلنغ ونشره أول أطروحة في العام 1801 يخالف فيها أفكار نيوتن.

بدأ هيغل نشاطه الفكري بالتعاون مع صديقه شيلنغ فأصدر مجلة لنقد الفلسفة وأخذ بنشر رؤيته المخالفة، واستمر على هذا المنوال إلى أن احتل نابليون يينا في العام 1806 فسرق منزله وصرف من العمل ما اضطره إلى قبول مساعدة من الشاعر غوته.


الرحالة والحفريات والترجمات

بعد حادث احتلال جامعة يينا سيدخل هيغل مرحلة جديدة في تطوره الفلسفي. فأصدر عمله الفلسفي المهم الأول في العام 1806، واشتغل في الصحافة واحتل موقع مدير صحيفة في بافاريا ولكنه طُرد منها لينتقل إلى وظيفة مدير مدرسة ثانوية في العام 1808، ثم أستاذ جامعة في 1816 في هايدلبرغ وأخيرا أستاذ في جامعة برلين نهاية 1817.

في برلين بدأت محطة جديدة ونوعية في حياة هيغل. فهو بلغ سن النضوج (47 سنة) واكتشف خطوط فكرته التي تطورت منظوماتها استنادا إلى متابعته اليومية لأخبار الصحف والاختراعات والاكتشافات واطلاعه على اللغات القديمة وكتب فلاسفة الإغريق والديانات الشرقية. وساعد التنوع المعرفي في تشجيع هيغل على إصدار موسوعة العلوم الفلسفية في العام 1817، ومبادئ فلسفة الحقوق في العام 1821.

بفضل هذه الأعمال النوعية نال هيغل شهرة كبيرة وتحول إلى نجم في وسط أصحابه وبات عنده مجموعة من المريدين والأنصار إلى جانب معاصرته هربارت (1776-1841) وشو بنهور (1788-1860) وأوغست كونت (1798-1857) صديق سان سيمون قبل أن يختلف معه لاحقا ويؤسس فلسفته الاجتماعية الخاصة التي عرفت بالوضعية.

شهرة هيغل لم تكن دائما لمصلحته وخصوصا حين هزم نابليون وانهارت الثورة الفرنسية بعد تقاتلها الداخلي، ما أدى إلى نمو موجة عداء للتنوير في أوروبا وظهور نزعة شوفينية (قومية متعصبة) في تضاعيف النخبة الألمانية. آنذاك دافع هيغل عن الوحدة ومشروع توحيد المقاطعات الألمانية ولكنه لم يتراجع عن تأييده لحركة التنوير وشعارات الثورة الفرنسية ما عرّضه للضغوط ومراقبة السلطة البروسية حين دعم المعارضة خلال فترة احتلاله منصب عميد الجامعة (1829-1830).

نجح هيغل خلال فترة الاضطراب في تفريغ قلقه الذاتي وإنتاج منظومة فلسفية سيكون لها وقعها الخاص في توليد تيارات متخاصمة في وعيها ولكنها متوافقة على إعادة أصولها الايديولوجية إلى الفلسفة الهيغلية وما أنتجته من قراءات وتحليلات لتطور الأفكار وتقدمها من الشرق إلى الغرب.

محاضرات هيغل الجامعية التي ألقاها بين العام 1816 (هيدلبرغ) والعام 1830 (برلين) عن موضوعات «فلسفة التاريخ» و»تاريخ الفلسفة» ستجمع وتطبع بعد رحيله في العام 1831 وستتضمن تلك الأوراق المتناثرة والملاحظات العابرة ورؤوس الأقلام أهم القضايا الفكرية (الذهنية) منذ البدايات في الصين إلى النهايات في بروسيا الجرمانية (ألمانيا لاحقا) لأنه نجح في برمجة تطورها الآلي ضمن منظومة منهجية ديالكتيكية سيأخذ بها الكثير من الفلاسفة في القرن التاسع عشر.

الانقسامات التي تولدت وتناسلت في عقول النخبة الأوروبية في القرن التاسع عشر لم تكن نتيجة فلسفات أنتجتها المدارس الإنجليزية والفرنسية والألمانية في فترات سابقة وإنما جاءت ردا على الانكسارات التي أحدثها التطور العلمي السريع المترافق مع الاختراعات التقنية والمنتوجات الثقافية (الميثيولوجية) التي استوردتها أوروبا من المستعمرات والمستوطنات في أميركا وإفريقيا وآسيا. فهذا التدفق الهائل في المعلومات الذي أخذ الرحالة ينقلونه عن خفايا العالم الآخر أنتج مضادات حيوية ألهبت المخيّلة ورفعت من درجة الاكتشاف المعرفي للتاريخ.

في تلك المرحلة الانتقالية شهدت أوروبا طفرة في كتب التاريخ، وصدرت عشرات المؤلفات عن تاريخ نشوء الكون، وتاريخ الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) وتاريخ الفيزيائية (الطبيعية) والطبيعة (الفلسفة الطبيعية) وتاريخ العلوم، وتاريخ الاقتصاد، وتاريخ الحيوان والنباتات والكائنات الحية، وتاريخ الإنسان، وتاريخ الفن والفلسفة والموسيقى، وتاريخ الأديان وغيرها من متابعات أخذت تركز على الزمن ودوره في ترسيم حدود التطور ودرجاته ومحطاته.

شجعت هذه «التواريخ» على تقديم خلفية زمنية للمدارس الفكرية فظهرت الفلسفة الطبيعية، وفلسفة الكون، وفلسفة العلوم، وفلسفة الاقتصاد، وفلسفة الاجتماع، وفلسفة التاريخ، في حقبات متقاربة ما ساعد على تعزيز حرب الأفكار وتوليد نزعات مادية وضعية (إلحادية) إلى جوار نزعات مثالية دينية ما ورائية (صوفية). ولعب كانط وهيغل وشو بنهور وكيركغارد دورهم في تثوير قضايا راهنة اعتمادا على ذاك المنتوج الإنساني (مدرسة الاستشراق) الذي أخذ يتدفق على القارة من الصين والهند وبلاد المسلمين وشعوب إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

الترجمات والحفريات والاكتشافات الأثرية وغيرها من منقولات فلسفية من الكتب القديمة بدأت تعطي مفعولها حين أخذت بالصدور بإشراف هيئات أكاديمية ومؤسسات تعليمية وبعثات جامعية أو بواسطة القناصل والسفراء والطواقم الدبلوماسية ومجموعات من الرحالة انتشرت في أقاصي الدنيا بحثا عن المعرفة وتقصيا للحقيقة. وهذا ما أشار إليه هيغل حين ذكر كتابات القنصل البريطاني في الهند (كو لبرووك) الذي كان له الفضل في ترجمة وشرح فلسفة الهنود خلال فترة عمله وبعد عودته إلى لندن وتأسيسه «الجمعية الآسيوية» وإشرافه على إصدار منشورات الجمعية التي ساهمت في توضيح تلك الرموز والإشارات والألغاز والطلاسم الشرقية.

هيغل كان نتاج عصره الذي شهد تحولات دراماتيكية على مختلف الصعد ما أدى إلى تشجيع النخبة على الالتحاق بتلك المتغيرات والتعرف على محطاتها وآلياتها وقوانينها. والمنتوج الفلسفي الذي توصل إليه هيغل لم يكن واضحا في صيغته النهائية، ولكنه شكّل بداية نوعية سيكون لها تأثيرها على مدارس الفلسفة في أوروبا حتى تلك التي قاومته أو رفضته. فالتعارض الذي ولّده منهج الديالكتيك (المثالي التاريخي) الهيغلي سيؤدي إلى فرز أنصاره إلى تيارات متناقضة بين اليمين واليسار. وسيكون لليسار قوة الغلبة لاحقا بفضل أعمال ستراوس (1808-1894) وفلسفة المادي الملحد لودفيغ فيورباخ (1804-1872) التي أسّست لاحقا نهج أقصى اليسار (ماركس - أنغلز).

الفلسفة المادية لم تتبلور فجأة فهي أخذت دورتها الزمنية لتتطور. وكان لابد للماركسية قبل أن ترى النور أن تسبقها مقدمات تاريخية عمرانية ومعرفية سيكون لها الفضل في توضيح معالمها وخطوط سيرها. فالعالم الأوروبي بدأ في مطلع القرن التاسع عشر يتطور بسرعة مخلفا الكثير من الانكسارات العنيفة والتحولات النوعية ما ترك تأثيره الكبير على نمو اجتهادات فلسفية اشتراكية مثالية، وقراءات اقتصادية في السياسة، وقراءات سياسية في الاقتصاد، وانتقادات للدين والفكر الغيبي وغيرها من موجات انقلابية أخذت تتكيّف مع عصرها. وفي هذه الفضاءات المتحولة صعودا وهبوطا ظهر الثلاثي الاشتراكي المثالي (سيمون، فورييه، واوين) ليقرأ المستقبل من ضمن رؤية ميدانية طوباوية تطمح للمصالحة والحوار السلمي بين قوى المجتمع المتصادمة مصلحيّا والمتنافسة معرفيّا على كسب المعلومات من مصادر متعددة المنابت ومتنوعة المنابع.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2779 - الجمعة 16 أبريل 2010م الموافق 01 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً