بعد أربعة تعديلات لمشروع القرار الأميركي بشأن إقليم دارفور السوداني تم التوافق بين دول مجلس الأمن على صيغة مرنة تعطي الخرطوم فرصة 03 يوما لمعالجة المأساة وسحب أسلحة ميليشيات الجنجويد "الفرسان" ووقف ما اسمته عمليات "الإبادة الجماعية". 03 يوما وإلا فإن مجلس الأمن سيعود إلى الاجتماع واتخاذ قرارات أكثر شدة، قد تصل إلى حد فرض عقوبات اقتصادية على السودان، وربما في مرحلة ثالثة قد يصل القرار إلى حد ارسال قوات دولية والتدخل عسكريا لوقف ما اسمته واشنطن المأساة الانسانية في دارفور. الصيغة الأولى للقرار الدولي التي صدرت أمس لا تشمل فرض عقوبات ولا تنص على التدخل العسكري، ولكنها تتضمن تفسيرات مبهمة تفتح باب التفاوض مجددا بين دول مجلس الأمن لتوضيح الغموض بعد شهر من الآن. أمام الخرطوم اذا شهر أغسطس/ آب لتصحيح وضع مأسوي تراكم منذ أكثر من 03 سنة وازداد حدة في ظل نظام لم ينجح في تحديد توجهاته العامة ولم يبتكر تلك الوسائل المرنة التي تسمح له بإدارة دولة شاسعة في مساحتها الجغرافية وتتكون من مجموعات قبلية وأقوام وثقافات متنوعة ومتلونة في تركيبها الاجتماعي والحضري. 03 يوما وإلا فإن دول مجلس الأمن ستلتقي مجددا لإعادة فتح مشكلة دارفور تمهيدا لفتح ملف السودان برمته وربما تقرير مصيره دوليا وبالنيابة عن أهله. وهذا يعني احتمال فتح ملف كل الدول الواقعة على جوار السودان وادخالها مجددا في سياق من العلاقات الاقليمية التي قد تجر المحيط كله إلى نوع من التوتر الأمني والفوضى العامة التي تشبه العراق ومحيطه بعد الاحتلال الأميركي لأراضيه وتقويض دولته عسكريا. أمام الخرطوم فترة شهر لحل أزمة اقليم يعاني من التهميش والفقر والجوع والتنافس بين قبائله على كسب الرزق في ظروف اقتصادية تشهد قلة في المال والامكانات والوسائل. وهذا يعني وبكل بساطة ان حكومة الرئيس عمر البشير غير قادرة على إحداث هذا "الانجاز التاريخي" لا في شهر ولا في سنة. ويمكن التوقع ان مأساة الاقليم ستزداد سوءا خلال فترة شهر أو سنة ليس لأن الخرطوم لا تريد حل المشكلة بل لأنها غير قادرة على حلها في ظروف ضاغطة محليا واقليميا ودوليا. فالحكومة المركزية عاجزة اصلا عن حل مشكلات العاصمة نفسها فكيف يمكن الطلب من الضعيف حل مشكلات الضعفاء. المأساة الحقيقية ان السودان "هذه الدولة الثرية" يحتاج كله إلى مساعدات دولية للحد من المشكلات المزمنة والموروثة وايضا لوضع حد لمشكلات مستحدثة اصطنعها النظام لضبط توازناته الداخلية والاستمرار في السلطة لأبعد فترة ممكنة. السودان اذا كدولة امام امتحان عسير بعد 03 يوما. والمشكلة الآن أن التدخل الأميركي يريد استغلال مأساة دارفور لفتح ملف كبير قد يؤدي لاحقا إلى توسيع رقعة المأساة لا تضييقها ومفاقمة الازمة لا حلها. فالمشاعر الإنسانية التي ظهرت فجأة في واشنطن كاذبة فهي تريد الباطل من كلام الحق، وتهدف إلى شد انظار الناخب الأميركي عن فشل الإدارة في الحرب على العراق إلى منطقة نائية عن ساحة الاضطراب. وكذلك تريد تغطية موقفها اللاأخلاقي واللاإنساني في الموضوع الفلسطيني وخصوصا بعد ان خالفت الاجماع الدولي في محكمة لاهاي بشأن جدار شارون العنصري وصوتت ضد القرار بعد نقله الى الجمعية العامة للأمم المتحدة. من أين جاءت هذه "المشاعر الانسانية" وكيف هبطت على "كتلة الشر" في "البنتاغون"؟ هذا هو السؤال السياسي الذي يجب ان يطرح لقراءة الجواب وتفسير الحماس الأميركي لاستغلال مأساة دارفور والاستفادة منها لحسابات بعيدة المدى تتجاوز الاقليم وتطال تركيبة السودان ووحدته وقد تمتد لاعادة صوغ خريطة القرن الافريقي. فالإدارة الحالية مغرمة بالتغييرات السياسية من طريق القوة العسكرية، وتعتبر ان الوقت حان لإعادة تركيب جغرافيا الدول وفق التصورات الأميركية. المشروع كبير وهو يبدأ باقليم دارفور ولكن نهاياته قد تمتد لتشمل محيط الدول من بحيرة تشاد الى بحيرة فكتوريا وصولا الى القرن الافريقي. فواشنطن تخطط منذ فترة طويلة لإعادة رسم خريطة الهضبة الاثيوبية ومحيطها منذ فترة طويلة، وهي تنتظر تلك اللحظة المناسبة للإعلان عنها كما حصل وأعلنت عن خريطة جديدة للشرق الأوسط بعد احتلال العراق. أمام الخرطوم 03 يوما، وفي نهاية أغسطس يتوقع ان يعاود مجلس الأمن الاجتماع لتقرير مصير السودان من خلال "دفرسوار" دارفور. فالاقليم نقطة ضعف وهو ربما يشكل ثغرة للتدخل الدولي بقيادة أميركية. وربما تكون هذه الخطوة هي الهدية المنتظرة التي يريدها جورج بوش قبل شهرين من الانتخابات الرئاسية. والهدية هي تغليف حروبه بنزعة إنسانية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 694 - الجمعة 30 يوليو 2004م الموافق 12 جمادى الآخرة 1425هـ