مرة جديدة، يستبق السياسيون والكثير من وسائل الإعلام المغربية الحوادث، مبدين تفاؤلا مبالغا فيه لناحية استعداد الجزائر للتجاوب مع مبادرات الرباط التي كان آخرها زيارة وزير الداخلية مصطفى الساهل، ففيما عزا البعض الانفتاح الجزائري إلى ضغوطات خارجية، رأى البعض الآخر أن ذلك يعود إلى إمساك الرئيس بوتفليقة بغالبية خيوط السلطة بعد النجاح الساحق الذي حققه في الانتخابات. لكن الوقائع التي ترجمت بالمواقف المتصلبة الصادرة عن وزير الخارجية عبدالعزيز بلخادم، جاءت لتؤكد أن إبقاء التأزم مع المغرب هو من ثوابت السياسة الجزائرية. كما ان رفض الحوار بشأن مشكلة الصحراء يعكس استمرار التجاذبات في قمة السلطة.
لم يترك المسئولون الجزائريون أي مجال أمام نظرائهم المغاربة لاحراز تقدم ملموس على صعيد المشكلات العالقة بين الطرفين بدءا من إعادة فتح الحدود المغلقة منذ سنوات، وانتهاء بالعمل على ايجاد الحلول الكفيلة بانهاء مشكلة الصحراء التي تستخدمها الجزائر ورقة للضغط على المغرب. فعشية وصول وزير داخلية هذا البلد، دعت الخارجية الجزائرية بطريقة استفزازية ملفتة الرباط إلى «عدم تضييع الوقت والتفاوض مباشرة مع البوليساريو» كما تعمدت نفي تعرض الجزائر لضغوطات خارجية تحديدا من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، وبنسبة أقل اسبانيا - التي بحسب قول وزير الداخلية نورالدين يزيد زرهوني لأحد أصدقائه من رجال الأعمال الخليجيين، بدأت بتعديل مواقفها منذ مجيء الاشتراكيين إلى الحكم - ما يثبت بما لا يقبل الجدل، أن مصادر القرار في قمة الهرم في الجزائر لاتزال مختلفة فيما بينها حيال عدد من الموضوعات الرئيسية المتعلقة بالسياسات الداخلية والخارجية وحتى الاقتصادية، وأن التصلب المفاجئ والمغاير للأجواء التفاؤلية التي طفت إلى السطح في الاسبوعين الأخيرين اللذين سبقا وصول مصطفى الساهل، ليس الا نتاجا للتناظرات والمزايدات بين مراكز القوى. هذه الأخيرة التي على ما يبدو، وبحسب مصدر جزائري رفيع المستوى يقف على مسافة واحدة من هذه المراكز، قد أربكها الموقف الأميركي الجازم لناحية اعتبار المغرب «حليفا متميزا» مع كل ما يتضمن هذا الخيار من أبعاد سياسية واستراتيجية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أزعجتها الزيارة الأخيرة التي قام بها الملك محمد السادس لواشنطن ولقاؤه الرئيس جورج بوش. ويفيد المصدر الجزائري عينه، أن المسئولين الجزائريين على رغم تبايناتهم وتناقضاتهم، باتوا يبدون قلقا «متزايدا» من الدور الذي وصفوه «بالهادف» الذي بدأ يضطلع به الملك في القارة الإفريقية.
كل هذه المعطيات والعناصر دفعت بالمسئولين الجزائريين إلى توحيد مواقفهم، مفضلين التصلب مجددا على الانفتاح والتقارب مع الجار المغربي الذي بحسب قول أحدهم في اجتماع عقد أخيرا في قصر المرادية يقوم بنقلات نوعية محرجة، كما يظهر في جميع المناسبات أمام الرأي العام المحلي والخارجي، كذلك أمام الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تحديدا، انه يسعى إلى طي صفحات الخلاف، كما ويبدي استعدادا لحل مشكلة الصحراء التي لا تعني من قريب أو من بعيد الشعب الجزائري المتذمر من بقائها عقبة أساسية حيال عودة المياه الى مجاريها والتي من ناحية أخرى تعوق بناء المغرب العربي وتطور مؤسساته وفتح أسواقه التي سيصل عدد مستهلكيها الى أكثر من 120 مليون نسمة في العام 2006 والذي تريد كل من واشنطن والأوروبيين التعامل معه ككتلة موحدة.
من مظاهر الارتباك
برزت خلال الأيام الأخيرة عدة مؤشرات فسرت دوافع التصلب الذي أبدته الجزائر حيال المغرب. فلم يقنع استقبال الرئيس بوتفليقة وزير الخارجية المغربي الذي أشارت وسائل الإعلام الرسمية الى أنه تم خلاله بحث موضوع العلاقات بين البلدين على «ضوء اجتماعات اللجان المختصة التي تناقش مجموعة من المقترحات التي من شأنها المساهمة في تطبيع العلاقات الثنائية»، أحدا، ذلك كون هذا النوع من التصريحات لم يخرج عن دائرة «اللغة الخشبية» كما لم تحظ التغطية الاعلامية الرسمية لزيارة مصطفى الساهل للمدرسة العليا للشرطة وحضوره حفل تخرج مجموعة من ضباط الأمن الوطني، كذلك مشاركته مع نظيره زرهوني تدشين مختبر لتحاليل الحمض النووي، بأي اهتمام من قبل المتتبعين لملف العلاقات الجزائرية - المغربية، اذ ان انظار الجميع كانت لاتزال متجهة إلى انعكاسات تغيب رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق محمد لعماري عن مواكبة الزيارة «التاريخية» لوزيرة الدفاع الفرنسية ميشيل أليوماري، والذي بررته السلطات الجزائرية تارة بسفر الرجل القوي لاسبانيا للعلاج وتارة أخرى كما ورد في المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده وزير الداخلية مع الضيفة بأنه في «إجازة».
في هذا السياق، فإن غياب لعماري مرده رفضه القاطع ربط المصالح الاستراتيجية للجزائر، بالقاطرة الفرنسية، كما يحاول ذلك بوتفليقة وغالبية فريقه باستثناء وزير الطاقة والمناجم شكيب خليل، الذي يحمل الجنسية الأميركية والذي تقيم عائلته بصورة دائمة في الولايات المتحدة، وتفيد المعلومات في هذا الصدد أن توجه الرئيس الجزائري نحو فرنسا مرده تأكده من ان جميع التنازلات التي قدمها إلى واشنطن وعلى جميع المستويات، لم تأتِ بالانعكاسات المنشودة التي يمكن أن تعزز موقع الجزائر في وجه المنافس المغربي في شمال افريقيا. هذا الأخير الذي بات اليوم يعتبر حليفا لا غنى عنه بالنسبة الى أميركا وبالتالي بات من الصعب الدخول معه في مواجهات من أي نوع. اضافة الى ان أية تنازلات يمكن ان تقدم اليها من شأنها ان تخلط الاوراق داخليا وربما تخل بالتوازنات القائمة حاليا.
فالبحث عن بدائل أواللعب على وتر التنازلات والتوازنات لصالح فرنسا أمر لا يستسيغه الجنرال لعماري، الذي أصبح بحسب بعض المراجع الفرنسية المقربة من وزارة الدفاع يدور في فلك الأميركيين وينسق مواقفه أولا بأول مع نظرائه الجنرالات في منظمة حلف شمال الاطلسي ويكرر زياراته للقواعد العسكرية الأميركية في ألمانيا.
ومن مظاهر الارتباك الأخرى التي تنعكس على مواقف الحكم الجزائري تصلبه تجاه المغرب أو تراجعه عن التعهدات المعطاة لفرنسا، أو التخبط في معالجة قضية الرجل الثاني في التنظيم الارهابي «الجماعة السلفية» عماري صايفي (الملقب بعبدالرزاق البارا) وتداعياتها السلبية مع تشاد، قيام وزير الخارجية عبدالعزيز بلخادم، بعقد مؤتمر صحافي فاجأ به الأوساط السياسية والدبلوماسية في العاصمة (الجزائر)، الذي نفى فيه بشدة، الأنباء عن اتفاق مع فرنسا يقضي بوجود قوات عسكرية فرنسية على أراضي بلاده ولا قوات جزائرية في فرنسا ولا أية قوات أجنبية في الجزائر على حد تعبيره، كما أوضح أن اتفاق الاطار العسكري الذي تنوي الجزائر وفرنسا توقيعه مستقبلا - من دون تحديد موعد زمني له - «لا يزال في مرحلة الجنينية وليس حاليا بالشكل الذي نرغب فيه». ما فسره المراقبون على انه يعكس الصعوبات الموجودة في قمة السلطة اضافة الى كونه يؤكد ان أدوارا عدة لم تحسم بعد منذ اعادة انتخاب عبدالعزيز بوتفليقة لولاية جديدة.
ويدخل الملف المغربي في صلب هذه الموضوعات التي لم يتم حتى الآن التوافق عليها بعد، ذلك على رغم الاشارات التي ارسلتها الجزائر إلى كل من واشنطن وفرنسا في الآونة الأخيرة، فالواضح ان ملف العلاقات مع الرباط، بما فيه مسألة الصحراء، لا يمكن ان يخرج من حال الجمود المفروضة من قبل الجزائر الا ضمن الاتفاق التام بين مراكز القوى على كل الموضوعات العالقة حتى الآن، بحيث تحفظ مصالح وامتيازات كل الفرقاء، فتصريحات بلخادم الاستفزازية غير المبررة لناحية قوله: ان «شروط المغرب لاقامة تعاون مرفوضة» كذلك انتقاده زوار بلده من الأجانب الذين عبروا عن أملهم في حوار مباشر بين الدولتين الجارتين والشقيقتين تشكل مظهرا ذا دلالة من مظاهر الارتباك السائد لمراكز القرار في الفترة الحالية وما الاصرار على دعوة المغرب إلى التفاوض المباشر مع البوليساريو - الذي نزعت السلطات الجزائرية أخيرا الغبار عن ممثليها في الداخل والخارج - الا دليل على هروب جديد للأمام ناهيك عن عودة اجواء المزايدات بين مراكز القوى في الحكم. ولا ينكر عضو في حكومة احمد أو يحيي الحالية - فضل عدم ذكر اسمه - وجود ضغوطات من جهات دولية على السلطة في الجزائر لاحداث انفراج في منطقة شمال افريقيا، كذلك في مجال الحريات العامة، بما فيها حرية التعبير واطلاق سراح الصحافيين المسجونين وتنفيذ الالتزامات السابقة لناحية تحرير الاقتصاد المشروع في تنفيذ برنامج التخصيص المؤجل، وادخال الشفافية إلى القطاع المصرفي.
صعوبة الالتزام
خلافا لاعتقاد بعض المحللين السياسيين لناحية قدرة الحكم في الجزائر على اتخاذ قرارات من شأنها تسريع التقارب مع المغرب بدا بفتح الحدود كمرحلة أولى، ومن ثم العودة إلى بحث كيفية اخراج مشكلة الصحراء من النفق، تجمع جهات أوروبية عملت على هذا الملف في السنوات الماضية، على ان الرهان على خطوات جزائرية في هذه الفترة، يبدو غير واقعي طالما أن الارجحية في كفة صناعة القرار داخل الجزائر لم تحسم بعدُ. ورأت هذه الجهات ان الترويج للانفتاح السياسي والتقارب مع الجيران المغاربة والترويج لعقد قمة لرؤساء دول اتحاد المغرب العربي ليست الا محاولات لكسب الوقت، إلى حين ترتيب البيت الداخلي الجزائري. في الوقت عينه، ينصح اصدقاء الجزائر من الأوروبيين قادة هذا البلد بعدم المغالاة في الاعتماد على المداخيل من الهيدروكربورات بتوظيفها خدمة لاستراتيجيات طموحة لا تتناسب مع طبيعة المرحلة.
ويلفت هؤلاء الأصدقاء الى ضرورة ضبط أصحاب هذه النظرية، لأن القوى الكبرى المعنية بمستقبل منطقة شمال افريقيا وموقعها الجغرا - استراتيجي لن تسمح بأي حال من الاحوال، لأي طرف بتجاوز الخطوط الحمراء حتى ولو كان هذا الطرف يملك النفط والغاز. على ذلك يعلق احد وزراء الطاقة الجزائريين السابقين، بأن بلاده لا يمكنها ان تلعب هذه الورقة لإغراء قوى عظمى ودفعها إلى دعم مواقفها السياسية في المنطقة، كون شركات هذه القوى سيطرت منذ عقود على هذا القطاع وتنوي في الاشهر المقبلة ربطه باستراتيجياتها بشكل نهائي عبر إجبار الحكومة الجزائرية على اقرار مشروع قانون فتح القطاع أمام الاستثمارات الخارجية والزام الجزائر باتباع سياساتها داخل الاوبك، هذا على أي حال ما حصل أخيرا
العدد 693 - الخميس 29 يوليو 2004م الموافق 11 جمادى الآخرة 1425هـ