أشاحت الأزمة الدائرة في السلطة الوطنية الفلسطينية عن عُمق الخلاف الذي يحتدم في أروقتها وفروعها ولوبياتها وبالذات في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلاّ أن البائن بجلاء في إرهاصات الأزمة الأخيرة أنها وليدة حتمية وطبيعية لذبول الوصلات التنظيمية بين جيلي حزب السلطة (فتح)، فمنذ اتفاقات أوسلو 1993 لم تُصدر الحركة تعميما تنظيميا واحدا، كما أنها لم تعقد مؤتمرها السادس منذ سنين خلت، وهو ما أدى إلى إيجاد حال من التكلّس في الأطر التنظيمية للحركة وغياب الملامح الجديدة لاستراتيجية السلام المُقَرَّة بعد أن كانت رسالة الفتحاويين منذ العام 1965 هي أن النضال المسلح يَزرع، والعمل السياسي يَحصد، ومن لا يزرع لا يحصد، وإلا تحوّل النضال إلى لعبة دم مقيتة تُفرغ النضال من محتواه وغائيته وهي إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة في حدود الرابع من يونيو/ حزيران والخالية من المستوطنين وعاصمتها القدس الشريف، وهو ما كان مُفترضا أن يتحقق في العام 1998.
وفي ظل غياب التوجيه الحزبي اللازم للكوادر وضبابية الحال وهلاميتها استأسدت أفواج الجيل الصاعد من داخل حركة فتح ومن أجهزة السلطة الأمنية لتُشكل نواة ثورية راديكالية بين الفتحاويين عُرِفت بكتائب شهداء الأقصى هدفها إزالة حال اللبس المسيطرة ولتجر المجلس الثوري إلى ركن ما يُجبره فيه على حلحلة ما يجري بشكل مُلِح. وقد انفصل ذلك الرعيل عن جيل الشيوخ الفتحاويين ولم يعد يعترف إلا بالرئيس أبوعمّار باعتباره (الأخ الرمز القائد) وبات استهجانه ببعض الجهات الإجرائية وبالأشخاص المستوزرين سمة غالبة مُطَعَّمة بشعار محاربة الفساد والفاسدين.
إن الرئيس عرفات يُدرك جيدا أن نزوله إلى الأراضي الفلسطينية بعد اتفاقات أوسلو وبمعيته أكثر من أربعين ألفا من العناصر المسلحة الذين رافقوه من بيروت إلى تونس قد غيّر مساقات الحركة النضالية في الداخل، وخصوصا أن عملية المواءمة بين النضال المسلح وحركة المفاوضات السياسية باتت الآلية الضرورية للسير بالأمور، لذلك فإن «إسرائيل» وفي سبيل إضعاف تلك المواءمة لصالح المفاوضات غير المستندة إلى البندقية شنّت عمليات اغتيال واعتقالات نوعية ضد قيادات ميدانية مهمّة في صفوف الحركات الفلسطينية المسلحة، كما شنّت عملية تحطيم منظّمة للحال الشعبية التي تتخندق حولها السلطة لديمومة شرعية نظامها السياسي القائم، فماطلت في موضوع إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة من موضوع محسوم إلى موضوع تفاوضي، وكذلك موضوع إزالة المستوطنات الذي نصّت عليه المبادرة الأوروبية. والأكثر من ذلك هو اختراق «إسرائيل» للكثير من الشخصيات والكتل والجماعات الفلسطينية الأمر الذي أدى إلى انكشاف أمني خطير في السلطة، وهو ما دعا الرئيس عرفات إلى أن يُوجد مجموعة من السياجات الوقائية لمجابهة ذلك الاختراق وأخذ المبادرة من جديد فصاغ منظومته الأمنية المعقدة (أكثر من اثني عشر جهازا ثم حوّلها بضغط أميركي وأوروبي إلى ثمانية... والآن إلى ثلاثة).
يُضاف إلى كل ذلك ان أهم مُدخلات الأزمة المزمنة للسلطة هو غياب الرقابة الإدارية والمالية على المسئولين (على رغم ما توصلت إليه اللجنة البرلمانية قبل عامين) الأمر الذي أدى إلى استفحال حال الفساد والمحسوبية والرشوة، ساعده على ذلك ازدياد حركة الموساد الإسرائيلي الذي مارس عمليات مالية مشبوهة مع بعض الشخصيات، بالإضافة إلى تجنيده العملاء. ثم حرّك الآلة الإعلامية لتغطي على الكلمات والعبارات لإثارة المزيد من البلبلة والاحتراب الداخلي.
إن ما يلزم الفلسطينيين القيام به هو أمور ثلاثة للخروج من الأزمة، أولها الاعتناء بالأطر التنظيمية لحركة فتح وإعادة الاعتبار إلى جيل الشباب فيها للتصدي للاحتلال، وثانيا: محاربة الفساد وتقديم المتورطين فيه إلى القضاء، وثالثا: إعادة تكريس رمزية القيادة (قيادة الرئيس عرفات) والاعتناء بها ومحاولة دعمها بكل الوسائل باعتبارها دولاب النضال الفلسطيني والابتعاد عن كل ما يمسّها أو يمس تاريخها الجهادي
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 691 - الثلثاء 27 يوليو 2004م الموافق 09 جمادى الآخرة 1425هـ