صدر التقرير النهائي من لجنة التحقيق الأميركية بشأن حوادث 11 سبتمبر/ أيلول، وأفاض حول النقاط العشر، التي وجد أنها تسببت في التقصير وفي إمكان تلافي ما حدث.
ومنذ ذلك اليوم من العام 2001، لم يعد العالم كما هو، ولن يعود، فالأمور تغيرت كثيرا إلى درجة قد لا يصدقها أحد، فماذا عن موقف العرب؟
لا اعرف على وجه اليقين من هي الجهة العربية، أو الدولة العربية التي يجب عليها أن تنظر في حوادث سبتمبر، لتقرأها بحيادية وتجيب عن أسئلة ستظل معلقة. من هذه الأسئلة: هل العلاقة العربية مع أميركا هي علاقة عداء، وبالتالي فإن ما قام به بعض العرب في ذلك اليوم يشكل حال (انتقام) عربي ضد أهداف أميركية؟ وان كانت هناك حال عداء، فما هي أسبابها، وهل هي عامة لدى كل العرب؟ وهل الوسائل التي استخدمت في ذلك اليوم تخفف من هذا العداء، وتقرب حل ذلك الصراع؟
وهل لأولئك الذين نفذوا العمليات في ذلك الشهر الذي تكاد تمر عليه ثلاث سنوات ورائهم أجندة متكاملة في التفكير والتنفيذ، قد يعودوا إليها من جديد، أم ما حدث هو أمر عابر قد لا يتكرر؟
لا احد متيقن عن الجهة أو المؤسسة العربية التي يتوجب عليها دراسة الموضوع برمته، والإجابة عن كل أو بعض تلك الأسئلة كما فعل الأميركان بما حدث عندهم، هل هي الجامعة العربية، كون معظم المنفذين من العرب؟ أم هي دول بعينها جاء منها أولئك الناس الذين نفذوا تلك العمليات، مثل مصر والسعودية ولبنان؟ أم تلك الدول التي نفذت فيها عمليات إرهابية مختلفة في الهدف ولكنها مشابهة في النوع، مثل تونس والمغرب والجزائر والمملكة العربية السعودية ومن يدري من هو القادم على الخط؟
ولكن المطلوب على وجه اليقين أن الأسئلة يجب أن تطرح، وأن جهات يجب ان تدرسها، وسأحاول كمواطن عربي، أن اجتهد في هذا المقام.
العداء سياسي وليس قيميا
العداء العربي مع أميركا، بشكل واضح ومحدد هو سياسي، وليس قيميا، بمعنى أن القيم العامة التي تؤمن بها مجتمعات الولايات المتحدة لا يختلف عليها كثيرون من مواطني العرب، تجد ذلك في كتابات كثيرة، واستطلاعات للرأي أكثر، الخلاف هو على السياسات، وهو خلاف يتمحور في معظمه بشأن (الموقف من «إسرائيل») إلا أن هذا الخلاف له جانبان الأول شعبي عربي، والثاني رسمي عربي.
الموقف الشعبي ينظر إلى ممارسات «إسرائيل» من العنف المنظم والدائم ضد الفلسطينيين فلا يهضم ذلك الموقف الرسمي الأميركي المجاهر بالمساندة قولا وفعلا، فيثور ويغضب، ويصبح قابلا لأية مقولة حقيقة، أو مضخمة صحيحة أو خاطئة تحلل الموقف الأميركي وتجعله مساويا تماما ومتوافقا مع الموقف الإسرائيلي، لذلك يجد المواطن العربي أن لا مناص البتة من وضع الاثنين (إسرائيل وأميركا) في موقع واحد من العداء، بل يذهب البعض ليقول انه لولا التشجيع والمساندة الأميركية لأصبح أمر «إسرائيل» مختلفا عما هو قائم، تلك أفكار في مرتبة الحقائق غير القابلة للنقاش لدى المواطن العربي بصرف النظر عن موقعه أو تعليمه. الموقف الرسمي العربي، وهو طبعا يحوي درجات متفاوتة من القبول والرفض، ولكنه بمختلف درجاته يحاول أن يفصل العلاقة مع الولايات المتحدة عنها مع «إسرائيل»، ويرى أن لا مناص من التعاون مع الولايات المتحدة بغية إما تحييدها أو إقناعها بالتحلل التدريجي عن المناصرة الكاملة لـ «إسرائيل» في كل ما تفعل، إلا أن هذا الموقف لا ينعكس إعلاميا أو بحثيا على ما تنتجه وسائل الإعلام، المملوكة للرؤى الرسمية، فيحدث هذا الخلل الذي تراه الولايات المتحدة انه (تحدث بلسانين)!
هذه المواقف الرسمية لا تبذل جهدا كبير أو قليلا لشرح الفارق النسبي بين تعاملها مع الولايات المتحدة والأسباب التي تدفعها لذلك، وبين الموقف من «إسرائيل»، ولا حاجة للإضافة هنا أن الموقف الفلسطيني يحبذ ويشجع مثل ذلك التلازم الأميركي - الإسرائيلي، في غالبية ما يصدر عن المؤسسات الفلسطينية شعبيا ورسميا، في الوقت الذي لم يحدد عرب العلاقات مع أميركا مستوى تلك العلاقات وحدودها، ومدى قدرتها أو عدم قدرتها على ردع أو تقليص السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، لم يحدد عرب مناهضة أميركا كيف وبأي الطرق يمكن مقارعة هذا العملاق الكوني الكبير؟
بعد 11 سبتمبر خطت الولايات المتحدة الرسمية خطوات مهمة باتجاه الاعتراف بتلازم القضيتين (العداء لأميركا في أوساط العرب، والعلاقة مع «إسرائيل») وللمرة الأولى تعترف إدارة أميركية وهي في الحكم أنها مع (الدولة الفلسطينية). الإعلان ذاك ارتبط بعدد من المطالب المسبقة وهي (الإصلاح السياسي الفلسطيني) ومجادلة هنا أن الإصلاح الفلسطيني يبدو اليوم كالعنقاء، غير متاح وربما غير متوقع، ويكفي أن نراقب تدهور الوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة لنعرف أن هناك مشكلة حقيقية، لا يكفي فيها قول بعضنا ان الرئيس ياسر عرفات (منتخبا) من الشعب الفلسطيني، كان قبله صدام حسين (منتخبا) أيضا، وقبلهما كان ريتشارد نيكسون (منتخبا) من الشعب الأميركي. يرى كثيرون انه لا يكفي القول أن شخصا منتخبا، ليتحول تلقائيا إلى (معصوم)، هذا شيء، وذلك شيء آخر! وفي السياسة لا يوجد معصومون.
التحرك النسبي للولايات المتحدة تجاه حلحلة الموضوع الفلسطيني، لم يقابل من العرب بخطوات جماعية وفعالة، فقد غلب عليهم موقف الشارع، ولعل التردد من الحكومات العربية تجاه الحكومة العراقية المؤقتة ينبئ عن هذا (اللا موقف) في العمل الجماعي العربي، فلا هي مقبولة من الكل، ولا هي مرفوضة من الكل، وهذا يؤسس إلى نتيجة أن العرب ليس لديهم أجندة واضحة ومشتركة في القضايا المطروحة عليهم، لم يكن لديهم أجندة للسلام مع «إسرائيل» (بعد كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية) فجاء بعضهم إلى السلام الهش، بعد رفض جماعي، متسللا ليصل إلى الموقف ذاته الذي رفضه علنا، كما أن موقفهم مما حدث في العراق، بعض مؤيد وبعض رافض، وآخرون بين بين.
أمام كل تلك المعضلات المعقدة وغير المحسومة أمام المواطن العربي، ومع تنامي تدهور مطرد لتنمية غير موجهة، تجاوز بعض العرب ترتيبات الأمن (القومي) إلى امن (أممي)، أن صح التعبير، ولم يكن الاممي في هذه الفترة التاريخية غير أميركا، ما زاد من الحيرة لدى جمهور واسع من العرب، وحتى أولئك الذين وافقوا ضمنيا على أن «إسرائيل» واقع يجب التعامل معه، لم يستطيعوا أن يحكموا شهوة الإعلام المحرك والحاشد في بلدانهم باتجاه آخر مضاد، اتجاه دوام العداء، والخلط بين الاحتلال الإسرائيلي، وبين الدعم الأميركي. والموقف من أميركا.
في هذه الحال بالغة التشويش، وصل بعض العرب ممن التقطتهم التيارات المتشددة في خضم هذا الرهاب الجماعي من أميركا، إلى أن الحل هو (قتل النفس وقتل الآخر) ولو بشكل شبه فردي، ولو كانت النتائج السلبية أكبر بما لا يقدر بأية نتائج ايجابية.
الأميركان طرحوا على أنفسهم بشجاعة السؤال لماذا يقرر بعض الشباب العربي أن يقتل نفسه بطريقة انتحارية؟ ووجدوا بعض الإجابة من وجهة نظرهم، تتلخص في ضيق الفرص لحياة سليمة وكريمة، باختصار سمته أدبياتهم فشل التنمية العربية! إلا أن السؤال دعك من محاولة الإجابة عنه، لم يطرح علينا في بلادنا العربية، لماذا يقرر البعض في ريعان شبابهم الانتحار، وقتل اكبر عدد من الأبرياء معهم؟
ليس منطقيا القول انه دوافع محاربة أميركا، فأي إنسان شبه عاقل يرى تلك الطريقة وأسلوبها غير فعال ولا مجد، فهو يشكل جبهة أعداء ضعفاء لا منافسين أقوياء، يمكنهم عملهم التأثير على سياسة أميركا في المدى المتوسط، كما أنه ليس منطقيا القول أن هؤلاء وقعوا تحت تفسيرات خاطئة أو منحرفة للدين، فذلك هو السطح والأداة، لا الجوهر.
إذا، الإشكال يطرح نفسه علينا جميعا يقودنا أن نفكر في الأسباب العميقة التي تجعل من إنسان يقاد إلى حتفه بهذا الشكل المروع والقاسي. انه سد الطرق، طرق العيش وطرق التثقيف، وطرق الحكم والإدارة، وطرق التعليم، فيقع أولئك في براثن أفكار وممارسات تقودهم إلى ما قادتهم إليه.
تفسير الحوادث على أنها عابرة، وان هناك شباب مضلل، هي وصفة للخمول الفكري في عالم تتعاظم فيه التهديدات، ولا نستطيع أن نحصل على إجابات شافية لتفسير ما يحدث، ومن ثم معالجة ما نحن بصدده. إن تمسكنا بسطحيات الأمور.
حقيقة الأمر أن ثلاثية التنمية الاقتصادية، والمنظومة التعليمية، والحكم الرشيد هي ما نحتاج إلى التفكير فيه وإعادة مناقشته، في عالم يتصف أكثر وأكثر بتأثير الجوار وتقارب الاتصال وللمرة الأولى في تاريخ الإنسانية، يتقلص فيه عاملان المسافة والزمن في وقت واحد
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 690 - الإثنين 26 يوليو 2004م الموافق 08 جمادى الآخرة 1425هـ