من أكثر الكلمات المتداولة في العالم العربي في هذه الفترة من تاريخنا، هي كلمة الاصلاح. لو أجريتم جردا سريعا على عناوين الصحف والمقالات التي تتداولها لرأيتم أن هذه الكلمة هي مفتاح المرحلة ولغزها المحير، لكن العبرة بما يلمسه المواطن البسيط الطيب الكادح على الأرض، فيشم رائحتها ويرى لونها ويتذوق طعمها، وإلاّ... لا كان الاصلاح ولا كانت الديمقراطية.
واليوم يفتح الفلسطينيون هذا الملف بعد أن بلغ الوضع درجة اللا صبر. ومن شأن الشعوب المكافحة - كالشعب الفلسطيني - أن تكون لديها حساسية شديدة ضد المظالم الاجتماعية ومظاهر الفساد المالي والاداري والسياسي والاقتصادي... ومن هنا نفهم ما يجري اليوم في قطاع غزة.
السلطة التي اعتاد رئيسها ياسر عرفات من سنوات الثورة ألا يناقش ولا يحاسب، ويعتبر نفسه أبا للجميع، بسبب ما كسبه من «شرعية» أيام الثورة والعمل المسلح. هذه الشرعية «الثورية» كانت بطاقة دخوله الجمعية العامة للأمم المتحدة منتصف السبعينات، كما كانت بطاقة توقيعه اتفاق أوسلو ومن ثم دخوله الأراضي المحتلة. ومن يعش في السلطة لا يحب أن يناقش أو يساءل، هذه طبيعة البشر، أو لنقل غالبيتهم العظمى، ولكن كلما كانت مساحة سلطة الفرد أوسع كلما كانت دائرة محاسبته أكبر، لسبب بسيط، هو أن القرارات التي سيتخذها لن تقتصر عليه أو على أهل بيته، وإنما ستمتد إلى الوطن كله سلبا أو إيجابا.
ونحن العرب ندفع ثمن مواريثنا المتخلفة في الحكم، ولا يشذ عن ذلك حتى الفلسطينيون، هذا الشعب المرابط الصابر المجاهد. وإذا كان للزعيم من شرعية ثورية تغطيه، فإن للشعب الحركي الثائر شرعية أخرى تغطيه أيضا، وتمنحه حقا إضافيا ومشروعا بالمطالبة بالاصلاح، ولكن المشكلة أن من يكون في الحكم لا يفهم ذلك. فعندما تمت إدانة معظم وزراء حكومة عرفات قبل عامين ماعدا اثنين، لم يعبأ عرفات بذلك وأصر على مناطحة الجدار بكل عنجهية وغرور. والأدهى أنه أخرج الوزيرين الصالحين من الحكومة وأصر على بقاء البقية «الفاسدة»، وهو ما انتقدته حينها حنان عشراوي، وانتقده قبل عدة أشهر فاروق النتشة في مقابلة مع الـ «بي بي سي»، بل إن وزيرا مثل نبيل شعث وقف متحديا كل الحركات والتنظيمات والرأي العام الفلسطيني، وبغرور وعنجهية جاهلية لا تضاهى، ليقول بملء الفم: «من يجرؤ على إخراجي من السلطة». كأن المسألة مسألة عنتريات وتكسير رؤوس!
وتزداد الحساسية تجاه التجاوزات والفساد، ويتصاعد الغضب عندما يقرأ الناس التقارير في الصحافة الاسرائيلية عن فضيحة الاسمنت المستورد من مصر لبناء جدار الفصل العنصري، ويتورط فيه رئيس الحكومة الفلسطيني أحمد قريع شخصيا، الذي جاء به الاميركان لـ «إصلاح» الوضع الفلسطيني! ويذهب أحد الوزراء إلى مصر ليشتري الاسمنت باسم السلطة «الوطنية» ويبيعه إلى «اسرائيل»، في الوقت الذي تطالب فيه السلطة الشعب بالتضحية بالروح والدم الغزير لمقاومة هذا الجدار العنصري الفاصل!
إصلاح «نموذجي» على الطريقة العربية الممتازة، فإذا كان هذا حال القادم ليقود حركة الاصلاح، فكيف يكون حال المفسدين؟!
النظر في المرآة الإسرائيلية
في المقابل يضطر المرء للنظر إلى الضفة المعادية (الكيان الصهيوني)، ماذا يجري فيه؟ ليس دفاعا عن الكيان الغاصب اللقيط، لكن لكي تعرف نفسك، عليك أحيانا أن تنظر إلى وجه عدوك، لتعرف الطريق.
اقرأوا قصة اسحاق رابين، جنرال عسكري عمل بعد تقاعده من الخدمة العسكرية سفيرا في الولايات المتحدة، وحصل على مقعد في الكنيست، وتولى وزارة العمل، حتى تقلد منصب رئاسة الوزارة، وأصبح خامس رئيس وزراء في «اسرائيل»، وترأس الوزارة مرتين: من 1974 حتى 1979، ومن 1992 حتى 1995. في المرة الاولى كان بطل «عملية عنتيبي»، وفي الثانية كان بطل «سلام اوسلو»، كل ذلك لم يشفع له عند قومه أن يخون الامانة. فعندما اكتشفوا أن لديه أموالا في مصرف خارجي في فترة من فترات حياته، فرض عليه رئيس المحكمة الاسرائيلية العليا الاستقالة.
هل تريدون قصة أخرى؟ شارون نفسه، بطل المجازر والمذابح التي اكسبته كل هذه الشعبية بين الاسرائيليين، كشف استطلاع للرأي أن غالبيتهم (70 في المئة) يعتقدون أن عليه الاستقالة إذا أظهرت التحقيقات ارتكابه مخالفات في إطار فضيحتين متعلقتين بالتمويل لأغراض سياسية، تتعلق إحداهما بقرض قيمته 1,5 مليون دولار من صديق لشارون يقيم في جنوب إفريقيا، وجدت السلطات القضائية أنها تبرعات غير مشروعة لحملة شارون الانتخابية العام 1999. والفضيحة الأخرى محاولة من مستثمر عقاري شراء جزيرة يونانية بمساعدة شارون عندما كان وزيرا للخارجية مقابل توظيف ابنه جلعاد وتقديم تبرعات لحملته. صحافي اسرائيلي وقف ليقول وهو يعيّرنا نحن العرب: «أنا خجول لتقديم رئيس حكومتي للمحاكمة بتهمة الفساد، ولكني فخور بنظامنا القضائي لأنه يحاكمه إذا تجاوز وخان الأمانة».
أما نحن العرب، أمة القطعان في آخر الزمان، فيصرّ زعيمنا الثوري ياسر عرفات، على إبقاء كل الخواتم الفاسدة في يده. فلا تستغربوا أن ينفجر الوضع، ويُمتشق السلاح في القطاع، بعد أن اكتشف الناس حقيقة الإصلاح على الطريقة العربية
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 690 - الإثنين 26 يوليو 2004م الموافق 08 جمادى الآخرة 1425هـ