هذه المرة، وجدت نفسي شارد الذهن على غير عادتي كلما أزور «اليزيرة» جزيرة النبيه صالح، إذ تحضن قبور أشقاء وجدود أجداد والدتي (يرحمهم الله) في مقبرتها الشهيرة المسماة بمقبرة الشيخ «دعلج بن علي» المبنية على «مساحة كبيرة من الجبل الصلد على نفقته الخاصة، حينما أمر بنحت القبور في الصخر قبل أكثر من ألف عام، أي في حدود سنة 400 هجرية، وسوِّرت هذه المقبرة في سنة 1978م بمسعى أهل الجزيرة وبمساعدة دائرة الأوقاف الجعفرية، واستهلكت ثمانية عشر ألف طابوقة ومئة وعشرين شحنة سيارة من الحجارة واستغرقت مدة البناء تسعة أشهر» (بحسب الباحث البحريني «الناصري» في كتيبه «قصة النبيه صالح» ص 7).
إذا صحت المعلومات في الدراسة التاريخية التي كتبها «الناصري» بشأن «قصة النبيه صالح» حاليا، وجزيرة «أُكُل» بضم الألف والكاف وسكون اللام قديما، والتي سميت باسم الشيخ الجليل صالح النبيه، كما هو متعارف عليها الآن بجزيرة النبيه صالح، فإن هذه الجزيرة ليست موقعا أثريا بالغ الأهمية اغتيل في وضح النهار كما اغتيلت تربته الخصبة ونخيله وبساتينه وجففت ينابيعه فحسب، بل هو اغتيال تاريخ يمتد لآلاف السنين.
ها أنا شارد الذهن والخيال يسرح في التجوال مع شريط ذكريات الطفولة، عندما كانت هذه الجزيرة «منتجعنا» الصيفي والشتوي في عطلات المدارس في الستينات من القرن الماضي، يشدني الحنين إلى عين «السفّاحية والخضرة وتشو تشب الشيخ» (كوكب الشيخ) والينابيع العذبة الكثيرة بمجاريها المنتشرة في كل زاوية من زوايا الجزيرة، وتلك القطعة الخضراء المزروعة بالبساتين من النخيل والأشجار المتنوعة الوفيرة، وعلى أطراف البحر الذي يحيط بها تجد «القلمان» والتين البري الشوكي وأنواع غريبة من الفواكه البرية التي لم أتذوقها في حياتي إلا هناك في تلك الجزيرة الخالية من الضوضاء، الهادئة الساكنة المعزولة.
في البحر نصطاد الأسماك، آه فكم كان الصيد وفيرا آنذاك؟! وعلى البر نتجول في البساتين، ونسبح في البرك، ولا تخلوا برامجنا اليومية غير المخطط لها سلفا، من صيد الطيور بأنواعها المختلفة «بالحبال» أو «بالفلاتية» ونمضي ثلاثة أشهر عطلة الصيف كأنها ثلاثة أيام، لا وقت لدينا من دون حراك وتمضية ممتعة، ننام باكرا كما تنام الجزيرة مع بدايات غروب الشمس ونصحو باكرين مثل أهلها، وعند الغروب نغسل «الحمير» في عين الخضرة وننطلق بها إلى «الزريبة»... حتى الحمير هناك أجمل! إنها تعرف طريقها من عين الخضرة إلى «الزريبة»، فلا غرابة أن تكون هذه الجزيرة ملاذا للحكام لكثرة «غلتها» وللعلماء سوق ينهلون نور العلم منها، ومكان للتفكر.
أتعرفون من اغتال الجزيرة التي غلتها من البر والبحر وفيرة؟ ولماذا وصلت إلى هذه المواصل؟
ربما يخرج علينا أحدهم لينظر إلى «ضريبة العصر»، وآخر يفنده «بجريمة العمران»، وثالث يلعن «ردم البحر» ورادميه، ورابع يتساءل، مجرد سؤال: لماذا تحتضر الجزيرة؛ ماتت أو كادت، بينما «لجزيرة» التي الى جانبها متوردة إلى يومنا هذا؟ ولجزيرة، بها نادي الضباط حاليا... لماذا نرى أشجارا خضراء وحيوية بـ «لجزيرة»، بينما في جزيرة النبيه صالح كل شيء فيها «ميت» عدا البشر وحديث الذكريات عن الماضي القريب، وهي تتوسع، وتتوسع لتلتهم البحر، وعلى أطرافها نخيل ميت، وفي داخلها ينابيع وعيون جافة ومردومة بالدفن.
لماذا لا يتدارس الجيولوجيون أسباب نضوب المياه من الينابيع والعيون في جزيرة النبيه صالح؟ ولماذا لا يهتم التراثيون والقائمون على السياحة في البلاد بهذا المزار الذي كان مزارا لأهالي البحرين ودول الخليج، لإعادة ولو جزء من حياة هذه الجزيرة العريقة؟
العدد 689 - الأحد 25 يوليو 2004م الموافق 07 جمادى الآخرة 1425هـ