العدد 689 - الأحد 25 يوليو 2004م الموافق 07 جمادى الآخرة 1425هـ

المشهد الفلسطيني وفقدان البوصلة

المأزق الذي أوصل إلى مفترق طرق

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

التردّي غير المسبوق الذي تعيشه الساحة الفلسطينية هذه الأيام، يأتي، من جهة، ليفضح الوضع الفلسطيني ويسقط ورقة التين عن عوراته واعطابه المزمنة، ومن جهة ثانية، ليؤشر إلى دخول هذا الوضع في امتحان تاريخي يؤدي به إلى واحد من منعطفين: إما ان يتجوهر ويتخلص من ادرانه ويطلع بالتالي من مأزقه المستحكم واما ان يسقط في المزيد من التندّر ليمعن في المزيد من النهش بالذات. إما ان يواجه قدره ويمتلك الشروط اللازمة لمواجهة الاحتلال والتصدي له بجميع الأشكال المتاحة واما ان يواصل استنزاف نفسه، لينتهي به الأمر عند بروز «شريك» مقبول من «إسرائيل» ومفضل بحسب قياساتها. زمن الترقيع والتلزيق يبدو انه ولّى. الدّرك الذي هبط إليه هذا الوضع لم يكن في أساسه نتيجة سقطة، في لحظة غفلة، ولا انحراف عرضي عابر. كما انه ليس حصيلة فلتان أمني، ناتج عن تعدد المرجعيات أو احتكار الصلاحيات أو تفاقم الصراعات بين مراكز القوى. فهذه كلها عوارض لأزمة أبعد واعمق بجذورها وأخطر بذيولها وتداعياتها، التي قد لا تتوقف قبل التسبب بانهيارات باهظة الثمن والآثار.

ما يجري اليوم فوق هذه الساحة يعود في الأصل إلى اشكالية رافقت حركة التحرر الوطني الفلسطيني منذ ولادتها. فمن البداية لم تحسم هذه الحركة بشأن خيارها الاستراتيجي. تضافرت عوامل عدة ذاتية، تتعلق بتركيبتها، وموضوعية، تتعلق بوجودها خارج أرضها وفي حضن وضع عربي رخو، لتترك هذا الخيار في خانة الميوعة والازدواجية. بقي يتأرجح بين شعار «التحرير» وشعار «إقامة الدولة المستقلة». وكلاهما بقي في دائرة الالتباس. لا «التحرير» كان المقصود به التحرير الكامل. ولا اقامة الدولة المستقلة كان المقصود بها وبصورة قاطعة، انتزاع اقامتها. ربما كان هناك اعتقاد بأن كون القضية الفلسطينية هي «الرقم الصعب» الذي يستعصي تجاوزه - وهي كذلك -، وكون الغرب عموما وأميركا خصوصا، يملك مفاتيح الضغط على «إسرائيل» ويملك مصالح حيوية كبيرة في المنطقة، فإنه من الممكن عندئذٍ حمل هذا الغرب، عندما تنضح الظروف المطلوبة، على اجبار «إسرائيل» للقبول بتسوية ما للصراع معها.

الولايات المتحدة التقطت باكرا مؤشرات مثل هذا الاعتقاد. وعليه بدأت ترمي ببالونات الاختبار وبالايماءات التي تشجع وتصب في تعزيز هذا التصوّر. ثم انفتحت الخطوط بالاتجاهين وراء الأبواب المغلقة وراح الجانب الفلسطيني يكشف عنها لمزيد من انفتاح شهيته على دور أميركي يصل به الى «الدولة». العلامات العلنية المبكرة، في هذا الاتجاه، ظهرت خلال المؤتمر الوطني الفلسطيني في الجزائر. ومنذ ذلك الحين بدأت تتسلل ثقافة «الواقعية» إلى صفوف القوى الفلسطينية. ثم أخذت تترسخ منذ مؤتمر مدريد الذي رأى فيه أصحاب هذا الاعتقاد ما يعزز قراءتهم. فاندفعت الشهية لتتحول إلى مراهنة على تسوية ترعاها واشنطن. وكانت ولادة أوسلو، الذي تناسلت عنه جولات التدويخ والتحذير التي استمرت نحو عقد من الزمن، ليس فقط من دون جدوى بل برجوع إلى الوراء. تطلب الأمر عشر سنوات من الركض وراء السراب ومن الخيبات ليتبيّن ان «الواقعية» كانت في الحقيقة وقوعية وان القراءة للنوايا الأميركية كانت خاطئة وبصورة بائسة. فواشنطن ليست في جعبتها حل ولا هي في وارد فرض شيء على حليفتها. كل ما يمكن ان تقوم به هو تسويقها للحل الإسرائيل فقط لا غير.

على الأقل منذ «كمب ديفيد» العام 2000 باتت الصورة واضحة بهذا الشكل. إلا لمن لا يريد ان يرى إلا على طريقة «غنزة ولو طارت». لكن الضرر وقع في الجانب الفلسطيني وبما يتجاوز الخيبة وضياع الوقت. ذلك ان نهج المراهنة على تسوية وعلى دور أميركي خلق ثقافة لا تستولد غير التراجع والانصياع. والأدهى انه خلق شروخات وسهّل لاختراقات، داخل الصف الفلسطيني. ذلك ان هذه الثقافة تجذرت وفعلت فعلها، لتفرز داخل الخط الثوري ذاته، الذي زرع بذور هذا النهج، أجنحة وقوى مازالت متشبثة بخيار التسوية المطروحة وبالمواصفات الأميركية - الإسرائيلية. ومن أخطر هذه المواصفات شرط اطفاء المقاومة الفلسطينية وبالقوة. يعني حصول اشتباك أهلي فلسطيني - فلسطيني. القيادة الفلسطينية التي فتحت هذه الطريق امتنعت عن تلبية هذا الشرط فجرت معاقبتها بالحصار المضروب عليها منذ أكثر من سنتين ونصف ومع الحصار رفعوا - أميركا و«إسرائيل» - شعار البحث عن ما يسمى بـ «الشريك» الفلسطيني في «عملية السلام». أي قيادة فلسطينية تكون مستعدة لتلبية المطلوب منها تحت ذرائع ضبط الوضع الأمني وتوحيد السلطة مع إزالة السلاح غير المشروع. والخلافات السياسية المحتدمة داخل السلطة منذ تشكيل ثم استقالة حكومة أبومازن، تشي بأن هناك طامحين الى لعب مثل هذا الدور المطلوب كما تشي - وهذا ما يؤكده العالمون ببواطن الأمور الفلسطينية - بأن الصراع الدائر الآن والذي يأخذ اشكال الاستقالات والاحتكاكات المسلحة والتعيينات الأمنية المتبدلة بين عشية وضحاها، انما يجري في حقيقته بين الحرس القديم وبين الطامحين بلقب «الشريك» المطلوب أميركيا وإسرائيليا. والمفارقة ان الحرس القديم بات في هذه المعمعة ضحية النهج الذي كان هو الأب الروحي له. ومن هنا مسئوليته التاريخية إزاء بلوغ الأمور النقطة البائسة بل المخزية التي وصلتها الساحة الفلسطينية في اللحظة الراهنة. فهو الذي بدأ هذه المسيرة ببوصلة مشوشة أدت إلى وضع فلسطيني فاقد لأية بوصلة. وإلا كيف يمكن تفسير هذا التدهور والانكشاف في اللحظة التي تحققت فيها مكاسب دبلوماسية بالغة الأهمية للقضية الفلسطينية، من صدور حكم محكمة العدل الدولية ضد جدار شارون إلى هجوم الرئيس الفرنسي على هذا الأخير واعتباره زائرا غير مرغوب فيه للأليزية، مرورا بتصويت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالغالبة الكاسحة إلى جانب حكم المحكمة ضد الجدار بدلا من ان يكون الوضع الفلسطيني في حال من التماسك تسمح له بتوظيف هذه التطورات على أفضل ما يكون، وإذ بغبار صراعاته الداخلية - التي كانت الثمرة المباشرة لنهج المراهنة على حلّ أميركي - يحجب هذه المكاسب ويصوّب الأضواء والاهتمامات نحو الوضع الفلسطيني المفخخ واهتراءاته التي إن كانت تشير إلى شيء فليس سوى إلى ان الآتي أعظم. إلا إذا حصلت صحوة، مع ان منطقتنا في هذا الزمن، محصنة تماما ضد هبوط الصحوات عليها

العدد 689 - الأحد 25 يوليو 2004م الموافق 07 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً