مادمت قد تحدثت عن النجف وكربلاء في الأيام الماضية فإنني سأكمل الحديث عن موضوعات اخرى لاكمال صورة عن أهمية هذه المدن المقدسة بالنسبة إلى المسلمين الشيعة. قم، أساسا، مدينة انشأها الجيش الإسلامي بعد فتح فارس في صدر الإسلام، ولذلك فإن كثيرا من «القميين» الأصليين جذورهم عربية لأنهم كانوا أساس الجيش الإسلامي آنذاك. وظلت مدينة قم على حالها ولم تتحول إلى حوزة دينية كبرى إلا في العام 1922م عندما تقدم عدد من علمائها إلى الشيخ عبدالكريم الحائري طالبين منه الانتقال الى قم وتأسيس حوزة دينية. استجاب الحائري إلى الدعوة وانتقل من مدينة آراك إلى قم وأسس الحوزة العلمية فيها، ولذلك فإن قم تعتبر «جديدة جدا» عند مقارنتها بالنجف وكربلاء.
قم تختلف عن النجف وكربلاء لانها توجد في بلد تعلن ان مذهبها الرسمي هو المذهب الشيعي منذ العام 1501م، وعلماؤها لهم صلات مباشرة بالعمل السياسي وهم أكثر نشاطا من نظرائهم في العراق التي كانت تحكم من قبل العثمانيين وغيرهم من الحكومات التي تتخذ من المذاهب الإسلامية السنية منهجا للدولة. علماء إيران كانوا يقودون النشاط السياسي منذ زمن طويل، مثل مقاطعة التنباك الذي حاول البريطانيون احتكاره في العام 1891، وقيادتهم للحركة الدستورية للعام 1906. والعلماء كانوا على اصناف، اما ناشط سياسي مطالب بحياة دستورية او بنظام اسلامي، أو مشترك في مؤسسة الحكم، أو محايد يركز على الشئون الدينية. والحائري كان مرجعا دينيا يركز على الأمور الدينية مثل أكثرية مراجع النجف، واستمر في رئاسته لحوزة قم حتى وفاته العام 1937.
مع نشوء قم بدأ الحديث عن ضرورة وجود مرجعية مماثلة لما هو موجود في النجف نظرا إلى الحاجة المتزايدة بعد سنوات من وفاة الحائري. بعد ذلك توجهت انظار علماء قم إلى مرجعية آية الله محمد حسين البروجردي الذي انتقل إلى قم في العام 1945، وتصادف انتقاله إلى قم ان توفي في العام 1946 مرجع الدين الكبير الذي كان له نفوذ في حوزات العراق وإيران السيد ابو الحسن الاصفهاني.
حوزة قم كانت (ومازالت) تسير على المدرسة الأصولية، وتتميز بتحالف استراتيجي مع تجار «البازار» الإيراني الذين تعتمد عليهم المؤسسة الدينية في التمويل (من خلال دفع الحقوق الشرعية)، والعلاقة بين الطرفين كانت ومازالت قوية جدا. عمل البروجردي على نشر المبلغين والعلماء في جميع انحاء إيران ضمن سجل متطور يشمل جميع المناطق، بالاضافة إلى ارساله ممثلين إلى خارج إيران بما في ذلك أوروبا واميركا. ولذلك فإن «شبكة علماء الدين» التي انشأها البروجردي كانت الأكثر تطورا لدى المسلمين الشيعة، ولذلك أصبحت قوة قم تعادل قوة النجف في كثير من الجوانب، وأقوى من النجف في الجانب السياسي.
البروجردي توفي في العام 1961، ولكن لم يخلفه مرجع أعلى في قم بل ظهر بعد ذلك عدد من المراجع من بينهم الإمام الخميني. الخميني أعلن منذ اليوم الأول لإعلان مرجعيته أن السياسة بالنسبة إليه من الأولويات، بل من ضروريات الدين، وقاد أول انتفاضة ضد الشاه في 1963 بعد ان وجه سلسلة من الانتقادات متهما الشاه ببيع إيران للاميركان والتحالف مع «إسرائيل» ضد مصالح المسلمين ومحاولة إزالة الدين من الحياة العامة في إيران.
المواجهة بين أحد مراجع قم والنظام الإيراني كان أول تحدٍ للشاه الذي لم يستطع إعدام الامام الخميني لان الاعراف السياسية والدينية والدستورية لا تسمح بالقضاء على مرجع من مراجع الدين. وهكذا قام الشاه بسجن الإمام الخميني ومن ثم نفيه إلى تركيا، ومن هناك انتقل إلى العراق ليتواصل مع شبكة العلماء المتطورة ويعود من العراق إلى إيران بعد خمسة عشر عاما من العمل السياسي والتدريس الديني في النجف الأشرف ليؤسس الجمهورية الإسلامية الايرانية في العام 1979. ومنذ تأسيس الجمهورية الإسلامية وحوزة قم في حوار «لم يحسم بعد» بشأن الفرق بين المرجع الأعلى والفقيه الحاكم (الولي الفقيه)، وفيما إذا كان المنصبان هما منصب واحد أو منصبان، واين يقع مركز المنصب، في قم أم طهران. ما هو مؤكد الآن هو ان عودة النجف إلى الحياة ستدفع الحوارات باتجاه مختلف لما كان الوضع عليه حتى الان، فالنجف لايمكن إغفالها (بعد زوال نظام صدام حسين) بأي حال من الاحوال
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 689 - الأحد 25 يوليو 2004م الموافق 07 جمادى الآخرة 1425هـ