العدد 2370 - الإثنين 02 مارس 2009م الموافق 05 ربيع الاول 1430هـ

التغيير... بين دور النخب وموقف الجماهير

هبة رؤوف عزت Heba.Raouf [at] alwasatnews.com

كاتبة مصرية

يلفت الانتباه هذا الكم المتصاعد من الدراسات والبحوث بل والدورات التدريبية التي تعقدها المؤسسات وتطرحها في الأسواق مراكز التدريب المتنوعة بشأن: القيادة الفعالة.

كل الناس هذه الأيام تأخذ دورة أو دورتين في القيادة، كيف تكون قائدا وتدير وقتك وتنجز أعمالك في أقل وقت وأعلى كفاءة.

ولا أمانع طبعا في ذلك، واللهم لا اعتراض على كل جديد وجيد، لكن السؤال هو إذا كنا سندرب كل هؤلاء القادة فمن هم الجماهير؟

السؤال لا معنى له في عالم إدارة الأعمال، فكل فرد يمكن أن يقود قائدا في مجاله وفي بنية المؤسسة لأنه مسئول عن فريق من المساعدين أو الموظفين، فمن الطبيعي أن يتم تدريب الإداري الناجح كقيادة، لكن العالم لا يتشكل من عالم الأعمال وحده على رغم أن علوم إدارة الأعمال تشبه علم الاقتصاد في أنها تحاول إعادة صياغة العالم على تصوراتها، فقد هيمن علم الاقتصاد على العقل الأكاديمي وصار منتهى أمل العلوم الإنسانية أن تحقق درجة الضبط الرياضي التي وصل لها علم الاقتصاد وسرى تصور الإنسان الرشيد النفعي الذي تخيله علم الاقتصاد سريان النار في الهشيم في النظرية الاجتماعية، واليوم إدارة الإعمال في تقاطعها مع التصور نفسه تحاول ترويج المسلمات نفسها وافتراضات الرشد والعقل النفعي الأداتي على الساحة.

والحق أن الواقع كما النظرية الاجتماعية قد تجاوزت اليقين في قدرة الإنسان على حساب كل أموره بمعيار الربح والخسارة منذ زمن، وتراجعت نظرية الخيار الرشيد أو العقل النفعي لتحل محلها نظرية الخيار الجمعي والأخذ في الاعتبار أن وراء العقل الرشيد حسابات الغيب والعاطفة والجماعة، فالناس لا يختارون وفق مصالح مادية ضيقة كما ظن آباء علم الاقتصاد، وخاصة فيما يتعلق بالقرارات الاجتماعية والإنسانية... والسياسية.

مشكلتي مرة أخرى هي أنه لو جاز الولع بتحويل كل فرد لقائد ناجح في إدارة الأعمال فإن هذا لا يصلح للسياسة والمجتمع، لأننا سنحتاج دوما لجماهير لا يدربهم أحد حتى الآن على كيفية أن يكونوا... جماهير ناجحين!

فالقيادة الناجحة تحتاج جماهير فعالة تستجيب للرأي السديد وتطور عبر الشورى أو الديمقراطية العقل الجمعي العام، والرأي العام، عبر جدل ونقاش عام. والجماهير الواعية قادرة على رد القادة للحق لو أخطأت وتقويمها لو زلّت بل واستبدالها لو ضلّت، فالقيادة الفعالة لا تفلح إلا بجماهير فعالة. لكن لا أحد يعبأ هذه الأيام بالجماهير.

الجماهير شركاء وليسوا دهماء، والجماهير هم الغالبية القوية وليسوا محض الأغلبية الصامتة التي يجب أن تقول للقيادة آمين قودونا فنحن شعب من الأميين سياسيا وثقافيا!

الجماهير هم رمانة الميزان وليست القيادة، وهم الذين يصنعون النصر بقيادة، فإن زاغت الأبصار وذهب العقل ولم يعد في القوم رجل رشيد فإن القيادة ستقابل هزيمة مرة كهزيمة أُحُد... وليس نصرا كنصر بدر.

ولا يسري هذا على السياسة فحسب بل يسري على الوحدات الاجتماعية قاطبة بدءا من الأسرة. فمن دون جماهير تعطي القيادة الشرعية في صيغة القوامة الفعالة لن يستطيع الرجل أن يقود السفينة للمرفأ، وحين يفتقد لجماهير عاقلة فإن الريح ستعصف بالجميع لأن لكل فرد مكانه ودوره، الرجل وحده لا يصنع أسرة.

بل يسري هذا على الفتوى، أذكر أن نقاشا ثار حين طورنا قسم الفتوى بموقع إسلام أون لاين.نت، فقد كان معيار النجاح عند الإداريين أن تزيد الأسئلة على القسم ويزداد الطلب على الفتوى وكان رأيي أن هذا إلى حين، لكن المنحنى الصاعد لابد أن يهبط لأن دور مؤسسة الإفتاء في الواقع أو على الإنترنت أنْ تعلم الناس مع الأيام كيف يتعاملون مع النص فتقل أسئلتهم وتتطور عبر السؤال والإجابة معارفهم، فكما للمفتي دور فإن للمستفتي دور كبير، بل إن المستفتي إذا لم يعرف كيف يسأل السؤال السليم في الوقت المناسب وبالصيغة المناسبة فإنه يضلل المفتي فينتج معرفة ضعيفة أو زائغة لا تجيب على مطالب الواقع فتنحرف مؤسسة الإفتاء نحو التافه من الأمور فننشغل بحكم نمص المرأة لحاجبيها ولا نسأل عن حكم نقص المال لأنه يدخل جيب الحاكم لا جيب الدولة، أو حكم نقض البيعة بالاستبداد وهدر مصالح العباد، كمن سُأل الإمام أبو حنيفة عن دم البرغوث: هل هو نجس، فسأله: من أين هو؟ فقال: من العراق فعنفه لأنه يسأل عن دم البرغوث لا عن دم من قُتل من الأئمة.

إن صناعة الفتوى يجب أن تسعى لتمكين المستفتي وتعليمه كيف يسأل كي ينهض الاجتهاد، لأن السؤال بضاعة المفتي، وصناعة الإدارة وفنون السياسة يجب أن تسعى لتمكين الجماهير كي تعين القيادة، بل إن الاقتصاد اليوم يسعى أحيانا لتمكين المستهلك لكي يتابع جودة الصناعة وتراهن عليه لتطوير السلع وتحسينها.

من للجماهير يعلمها كيف تنقاد وكيف تحفظ المقاصد العليا للأمة حين تهدرها القيادة؟

من للجماهير يعلمها كيف تفهم رسائل الإعلام الخفية وتفك شفرة الذل وتستعيد معاني الكرامة في زمن استمرأت فيه غالبية الناس حالها بل وتزينه لنفسها لكي لا تدفع ثمن التغيير.

ومتى يكون عندنا جماهير تتحرك حين تتهدد القيادة الأخطار، لا تنتظر القيادة للأبد وقد ماتت على الكرسي فما يدلهم على موتها إلا دابة الأرض تأكل المنسأة فينهار الجسد ولو كان للجماهير وعي ما لبثوا في العذاب المهين.

متى تفهم الجماهير حقوقها لدى القيادة، وأن القيادة التي تضيع الحقوق هي قيادة غير فعالة؟

ثم من قال إن القيادة واحدة؟ هناك قيادة في الصدارة لكن للجماهير قياداتها، وحين تكون الجماهير واعية وقوية فإنها تفرز وتخلق في لحظات الأزمات قياداتها وتكون جاهزة لاستبدال القيادة لأنها جماهير تصلح للقيادة ما منعها إلا موجبات التنظيم والترتيب للأدوار لا قبولها للانقياد الأعمى... ولو حزمت أمرها لأخرجت في لحظة ألف قيادة بديلة.

إن مقومات القوة لا تنتقص بجماهير قوية، بل هذه قوة إضافية للقيادة، ومن يظن من القيادات أن قوته تزيد إذا نقصت قوة الجماهير وأننا بإزاء لعبة صفرية إذا فاز فريق انهزم فريق فقد ضل وخاب مسعاه، وسيتمتع بقوته شهرا لكنه لن يستطيع أن يمسك بزمام الأمر دهرا لأن هذه الجماهير إذا ثارت قلبت المعادلات وقد تودي الفتن بكل قوة القيادة فتقول ساعتها لو أن الله هداني لكنت من... الديمقراطيين.

التغيير معادلة صعبة تحاج للتوازن بين القيادة والجماهير، ومهارة فائقة في تقسيم الأدوار وإدارة الخيارات والاحتفاء بالأسئلة، والحكمة في التعامل مع التنوع والتعدد والاختلاف.

التغيير هو نتيجة قيادة فعّالة وجماهير رشيدة، وإلا فاصنعوا الفُلك كما صنعه نوح... واستعدوا للطوفان!

إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"

العدد 2370 - الإثنين 02 مارس 2009م الموافق 05 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً