إذا كان يهود فرنسا نجحوا حتى الآن في إمساك العصا من وسطها، والظهور أمام الفرنسيين - سلطة وشعبا - بأنهم، خلافا لغيرهم من أبناء الطوائف غير المسيحية، ليس لديهم أي ولاء آخر، فإن تصريحات ارييل شارون الأخيرة، الذي دعاهم إلى المغادرة الفورية والعودة إلى «إسرائيل»، أحرجتهم إلى حد إحداث شرخ بين قادتهم العلنيين وأصحاب القرار الفعليين داخل الطائفة البالغ عددها 600 ألف. كما أدت إلى كشف نوايا الكثير منهم، وخصوصا الذين ينشطون في إطار الوكالة اليهودية للهجرة، التي تعمل منذ سنوات على ترتيب ترحيل العائلات من الأرض المؤقتة إلى «أرض الميعاد».
وعلى رغم عدم تقصير السلطات الأمنية الفرنسية يوما بحق مواطنيها من الطائفة اليهودية سواء من ناحية تأمين حماية استثنائية لهم ولدور عبادتهم، أو من ناحية وقوف الطبقة السياسية بيمينها ويسارها إلى جانبهم إلى حد الانحياز الفاضح في كل مرة يتعرضون فيها لتحرشات معادية للسامية، لن تلبث أن تصبح وهمية - كما حصل مع حادث القطار منذ أكثر من أسبوع فإن هؤلاء المواطنين لا يتوانون عن التعبير في مناسبات عدة، وبشكل علني بأن ولاءهم الأساسي هو لدولة «إسرائيل» التي تُرفع أعلامها في الاحتفالات الدينية والخاصة، ما يعني عمليا أن مواطنيتهم الفرنسية تأتي بالدرجة الثانية.
هنا ينبغي التذكير بالتحقيق المصور الذي بثته القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي (الحكومي) منذ أشهر بعنوان: «السياحة الملتزمة»، المترافق مع مقابلات، أكدت بمجملها أبعاد هذا الولاء. فجميع الذين استجوبهم فريق التلفزيون من يهود فرنسيين جاءوا لتمضية عطلتهم في «إسرائيل»، أجمعوا على أن ما يقومون به يستهدف دعم اقتصاد بلدهم الذي يمر قطاعه السياحي بأشد أزمة في تاريخه بسبب الانتفاضة الفلسطينية وتداعيتها السلبية عليه. ولم يتردد البعض عن الإشارة في حديثه إلى أن الأولوية تبقى معقودة اللواء للوطن الأم. من ناحية أخرى، لم توقف الوكالة اليهودية للهجرة من فرنسا إصدار إحصاءاتها بعدد الأفراد الذين غادروا هذا البلد للعيش والعمل في «إسرائيل». فقد وصل عدد هؤلاء بنهاية يونيو/ حزيران الماضي إلى ما يقارب 2100 شخص. كذلك، استمرت في حملاتها العلنية لدفع هؤلاء اليهود الفرنسيين إلى المغادرة تحت ذرائع شتى، لا تمت إلى الحقيقة بصلة، إذ ذهب الناطق الرسمي باسم هذه الوكالة ميخائيل جانولوفيتز إلى حد الاستفزاز بقوله إنه «يجب على الآلاف من أبناء شعبنا العودة إلى أرضهم بعد 2900 سنة من النفي». مواقف استفزازية تكاملت مع تصريحات شارون مباشرة عبر ما ذكره رئيس «اليونيفان» ليون روزينبلوم، المؤسسة المكلفة بتسهيل اندماج يهود فرنسا في «إسرائيل»، من أن «همجية معاداة السامية في فرنسا»، التي يتجاهلها الإعلام والطبقة السياسية لا يوجد فيها إلا لدى النازيين». هذه التصريحات والمواقف التصعيدية وضعت حاخامات الطائفة وشخصياتها المرموقة في فرنسا في مأزق حرج، أعاد إلى الواجهة مسألة ازدواجية ولائها، الأمر الذي حدا بالبعض منهم إلى الإسراع في الرد على شارون ودعوته، مؤكدين أنها لن تلقى التجاوب المنشود.
خطأ التضخيم
منذ أكثر من سنة ويهود فرنسا يعتمدون سياسة «الهجوم الوقائي» عبر إعطاء صورة مبالغ فيها من أنهم ضحايا لموجة عنصرية من نوع جديد، أبطالها من الجالية المغاربية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية. كما حشدت الطائفة اليهودية من أجل تنفيذ هذه السياسة كل قدراتها البشرية على الساحة بدءا من المفكرين والكتاب والصحافيين ورجال السياسة، بحيث لم يعد في وقت من الأوقات إلا موضوع واحد، ما يتعرض له أبناء الطائفة من تحرشات واستفزازات يقوم بها المغاربيون المسلمون المتعاطفون مع إرهاب أسامة بن لادن. كما تمكنوا من استدراج الكثير من رجال السياسة في فرنسا، الذين تباروا في تضخيم هذه الظاهرة «المعادية للسامية» المتقاطعة مع الإرهاب الدولي الذي يجب وضع حد له. إضافة إلى ذلك، جندت الدولة مختلف أجهزتها للسهر على أمن وحماية مواطنيها اليهود من شر المواطنين الآخرين، المسلمين الذين ناهز عددهم الخمسة ملايين شخص تقريبا. ذلك، في الوقت الذي وقعت فيه هذه الطائفة، في «فخ الحجاب» الذي نُصِبَ لها مع كل ما رافقه من تجييش وتحريض مجتمعي وإعلامي. فما كان من هذا التضخيم للاعتداء على اليهود إلا أن حقق هدفه المرحلي بتكريس سياسة الهجوم الوقائي، بحيث بات المسلمون بمن فيهم الذين يعارضون ارتداء الحجاب واحترام أسس «الدولة العلمانية» في وضع الدفاع وتجنب الدخول في أية نقاشات لتوضيح مرامي التضخيم المعتمد من قبل المجموعات اليهودية.
ولم تتوقف هذه المجموعات عند «النجاحات» التي حققتها، بل ذهبت أبعد من ذلك في مطالبة الدولة الفرنسية بتقديم المزيد من اللفتات المتميزة حيال الطائفة اليهودية، حتى ولو كان ذلك على حساب الطوائف الأخرى. فبحجة تعرض أبنائها لتحرشات واعتداءات بلغ عددها 18 حالة - نصفها مختلق - هذا ما تبين لاحقا، كما حدث مع الحاخام «فارحي» على سبيل المثال لا الحصر، حاول رموز الجالية اليهودية فرض مواقف وخطوات على الحكومة الفرنسية التي زايد بعض أعضائها في تقديم التنازلات بتوجيه اصبع الاتهام إلى الطائفة الإسلامية التي، نتيجة عدم تنظيمها، فسحت المجال أمام عدد من المتطرفين المرتبطين بمهمات مشبوهة للإساءة إلى مواطنين آخرين. فمع الأسف، لعبت وسائل الإعلام الفرنسية الرسمية منها بصورة خاصة دورا مباشرا في تسويق «تضخيم الحوادث» وتصوير يهود فرنسا على أنهم الضحية ومغاربيي الضواحي على أنهم المتجاوزون الذين ينبغي التصدي لهم. فطوال الأشهر العشرة الماضية والجمعيات الإسلامية وبعض المفكرين والكتاب المغاربيين يحاولون التصدي، من دون جدوى، لسياسة الهجوم الوقائي المستفيد من كل نعرة عامة أو خاصة لدى «المتحرشين»، المعادين للسامية.
ولم يوقف هذه الهجمة التضخيمية - الإعلامية سوى حادثين متتاليين، الأول قضية المرأة التي ادعت باعتداء مغاربيين وأفارقة عليها وعلى طفلها في القطار، وإسراع الطبقة السياسية قبل بدء التحقيق بالهجوم والتنديد وفتح أبواب الجمعية الوطنية يوم الأحد لهذا السبب وتوجيه الاتهامات والتحذيرات يمينا ويسارا، ومن ثم تبين أن قصتها مختلقة ولا أساس لها من الصحة. أما الثانية فهي خروج ارييل شارون المفاجئ للحكم في فرنسا، الذي كان يعد لزيارة لعاصمتها، بتصريحاته الداعية ليهود هذا البلد إلى العودة فورا.
هذان الحدثان لم يربكا السلطات الفرنسية فحسب، بل أحدثا شرخا داخل الطائفة اليهودية في هذا البلد. من هنا جاءت التصريحات متفاوتة حيال ما دعا إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي، وخصوصا بعد موجة التصريحات الصادرة عن الطبقة السياسية الفرنسية، إثر الموقف الذي اتخذه رئيس الجمهورية جاك شيراك، الذي أعلن خلاله أن شارون بات غير مرحب فيه في فرنسا وعليهم تفسير مقاصده. فالذي حدث، بحسب رأي بعض المحللين السياسيين الفرنسيين، يظهر وجود تناقض بين استراتيجية شارون الهادفة إلى جذب عدد من يهود العالم إلى «إسرائيل» في هذه المرحلة بالذات وبين قادة هؤلاء اليهود الذين لا يرون ضرورة لذلك، إضافة إلى أن خطوة من هذا النوع ستكون خسارة كبرى في المستقبل، بحسب رأيهم. ويرى بعض البرلمانيين الأوروبيين من اليهود أن تفريغ دول الاتحاد أو التقليل من عدد اليهود فيها، يذكر بما حصل مع بعض الدول العربية في الخمسينات، وبالانعكاسات السلبية لهجرة اليهود الروس التي تعاني دولة «إسرائيل» حتى الساعة من آثارها.
العودة إلى المواقع الدفاعية
يتوقع المراقبون في فرنسا أن تؤدي المحكمة التي أظهرتها الجاليات المغاربية ومسئولو الجمعيات الإسلامية في المرحلة الأخيرة، من جهة، ومن جهة أخرى، الأخطاء التي راكمتها «الحالة اليهودية» الداخلية والخارجية، إلى تخلي يهود فرنسا عن سياسة «الهجوم الوقائي» المؤقت واعتماد أسلوب الانحناء حتى مرور العاصفة. ويؤكد هؤلاء المراقبون أنه لا الحكم في فرنسا بجميع أطيافه ولا نظيره في «إسرائيل» يريد الذهاب إلى النهاية في مواجهة وخصوصا في الظروف الحالية. هذا ما يفسره التصريح السريع الصادر عن الناطق الرسمي باسم الحكومة الإسرائيلية أفي بازنير، الذي جاء فيه أنه «لم يُحسن فهم ما قصده رئيس الوزراء الذي لم يدعو فقط يهود فرنسا، لكن أيضا يهود العالم، لأن ذلك جزء لا يتجزأ من الرؤية الايديولوجية الصهيونية. في المقابل، كرر وزير الخارجية الفرنسية ميشال بارنييه، دعوته إلى الحكومة الإسرائيلية لتفسير ما جاء على لسان شارون، ما يعني أن باريس تريد إيجاد مخرج «للمتحرش» بها يمكن أن يزيل عندها الأسباب التي باتت تقف عائقا أمام مجيء شارون في زيارة رسمية لفرنسا.
في هذا السياق، لا يجوز الاعتقاد حتى ولو للحظة بأن التركيبة السياسية الفرنسية من موالاة ومعارضة، يمكن أن تصل إلى حدود المواجهة الفعلية مع «إسرائيل». هذا ما تعرفه تل أبيب وتعمل على الدوام على أساسه. مع ذلك، تخشى «إسرائيل» من النمو المتزايد للمعاداة للسامية لدى الأوروبيين، وتعتقد أنه إذا ما تم تحميل فرنسا ذلك، كونها تحوي العدد الأكبر من اليهود على أرضها، سيدفع بالآخرين إلى الخوف والتراجع وتقديم التنازلات، فالموقف السياسي الأوروبي في الشأن الفلسطيني، آخره من تصويت محكمة لاهاي وفي الأمم المتحدة، بات مصدر قلق. لذلك، لابد بالتالي من إحداث إرباكات تخلط الأوراق تمهيدا لإعادة ترتيبها وتخفيف الضغط بالتالي على «إسرائيل».
على أية حال، يمكن القول إن الجالية اليهودية في فرنسا لم تصادف منذ فترة بعيدة مأزقا على مستوى ازدواجية ولائها كالذي شهدته منذ أيام نتيجة تصريحات شارون. وهي تدرك أن هذا الأمر بات نقطة ضعف وورقة يمكن أن يستخدمها خصومها إذا ما أحسنوا التقاط الفرصة. من هنا جاءت ردود فعل قادة الطائفة على تصريحات شارون إلى حد قول رئيس رابطة مكافحة العنصرية ومعاداة السامية باتريك غويير بقوله: «كان الأجدر برئيس وزراء (إسرائيل) أن يسكت»، متابعا: «إن كلماته لا تؤدي إلى الهدوء والسلام والاستقرار النفسي الذي نحن بحاجة إليه». كذلك تصريح أبرز مستشاري الحاخام الأكبر لفرنسا جوزيف سيتروك، حاييم كورسيا الذي أكد فيه «أن يهود فرنسا يشكلون جزءا لا يتجزأ من روح هذا البلد»
العدد 687 - الجمعة 23 يوليو 2004م الموافق 05 جمادى الآخرة 1425هـ