صرخ والسيف مسلطٌ على عنقه. رجل فقير من عامة الناس. رجل لا يزيد ولا ينقص بحساب الدول غير المتحضرة. رجل يدعى انجيلو دو لا كروز. صرخ في القائمين على السلطة في وطنه: «أنقذوني، اسحبوا قواتكم من العراق، لا أريد أن أموت». بلاده تحكمها امرأة. بلادها لها مصالح شتى مع أميركا وغير أميركا. معونات لا حصر لها. عسكر. بضائع. وعمالة رخيصة. هب الشارع واشتعلت أفئدة الناس. سُحبت القوات. وأنقذ المواطن. نجا من موت حتمي وسيف أعمى. وأخذ معه من خاطفيه حفنة من المال لتعينه على الترحال.انتقد «البيت الأبيض» الفلبين في رسالة فحواها: «رسالة سيئة» إلى الإرهاب. واتهمها الاستراليون بـ «الرضوخ للإرهابين». ولزمت الرئيسة الفلبينية أرويو الصمت في وجه انتقادات الحلفاء لقرارها سحب قوات بلادها. هذه قصة وليست من الخيال. قصة وطن يحترم مواطنيه. قصة وطن يضع المواطن تاجا فوق رأس الوطن.
ما قصة هذا البلد الذي ضرب بعرض الحائط كل مصالحه مع أميركا والعالم من أجل مواطن واحد؟ ما قصة هذا الوطن الذي سحب قواته لإنقاذ مواطن من مواطنيه؟ مواطن واحد لا غير. ما قصة هذا الوطن الذي يستطيع أن ينجب ألف ألف مواطن، بدل هذا المواطن الذي تغرب في الأرض من أجل لقمة العيش. وطن يستطيع أن يترك مواطنه قبل أن يأخذ السيف عنقه، وبعد أن يأخذ السيف عنقه وروحه وكأنه لم يكن؟
تقول الاسطورة السياسية إن الفلبين هذه الجزر الكثيرة كانت تعيش في مجاهل التاريخ والحضارة. استعمرها الغزاة من الشرق والغرب. أكلها الخارجي والداخلي. حكمها المجرمون وجامعو الأحذية. هي «أرخبيل» مؤلف من سبعة آلاف جزيرة. في جنوب شرق آسيا. استعمرها الإسبان (1565-1898). إستعمرها الأميركان (1898-1946). حكمها دكتاتور يدعى ماركوس 20 عاما. في التاسع من فبراير/ شباط 1986 دخلت عصر الديمقراطية بتنصيب امرأة على رأس السلطة فيها. كورزان أكينو. المهمة الأولى كانت دستورا يحمي الديمقراطية. 48 شخصا وضعوا الدستور. به 18 مادة. كلها تقول لا للدكتاتورية والحكم الدكتاتوري. أقرته الجماهير. خمسة وسبعون فاصلة خمسة نسبة التصويت. في الثاني من فبراير العام 1987. نقاطه الرئيسه: سلطة مدنية. فصل الكنيسة عن الدولة. استقلالية إدارية للأقليات العرقية والقبلية. حماية حقوق الإنسان والمواطن والتراث. إعلاء نظام اجتماعي عادل. استقلال السياسة الخارجية للوطن. ينتخب الرئيس بالاقتراع المباشر لست سنوات مرة واحدة فقط ولا يعاد ترشيحه. مجلس شيوخ من 26 فردا ومجلس الممثلين من 250 عضوا.
ماذا تقدم لنا هذه القصة؟ هل فكرنا حقا فيما دار وما سيدور حول هذه القصة؟ هل فكرنا في حبكتها. في أبطالها. في مشروعيتها. في بدايتها. في نهايتها. أم هل خرجنا منها كما دخلنا عراة من ورقة التوت التي تغطي عورة فكرنا قبل جسدنا؟ أسأل وأدعو لكم ولي نعمة الفطنة. أدعو لكم نعمة الشجاعة. أدعو لكم أن تعودوا قليلا إلى الوراء إلى تراثنا الغني بمثل هذه القصص العظيمة.
خذوا هذه القصة التي هي أشهر من نار على علم: امرأة في أحد عصور النور التي كانت لأجدادنا صرخت وهي العارفة بعظمة الرجال: «وامعتصماه». صرخ «المعتصم»: «النفير النفير». هبت الجيوش لإنقاذها. وأنقذوها. في عصرنا الرديء جدا حين يصرخ المواطن العربي وتعداده يزيد على 200 مليون بأعلى صوته: «وارئيساه»، تأتي الشرطة إلى منزل أهله وتدنس بأحذيتها موقع صلاة أمه وأبيه. تدخل الرعب في أطفاله وأطفال أخيه. ثم تخرج والأيادي ملطخة.
هل نعي؟ وهل نعرف إلى أين نحن سائرون؟ إذا كان الجوب بنعم. أفيدونا أفادكم الله. أما إذا كان الجوب بلا. فعليكم أن تستعدوا للمقبل من الأيام. فقد أعذر من أنذر.
رب وامعتصماه انطلقت
ملء افواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم
العدد 686 - الخميس 22 يوليو 2004م الموافق 04 جمادى الآخرة 1425هـ