نصل إلى السؤال المذعور «لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب (الإسلام)؟». الإجابة تحتاج إلى قراءة تاريخية (زمنية) حتى لا يسيطر الإحباط وتبدأ سياسة جلد الذات. فالمسألة أحيانا موضوعية (خارجية) وتتجاوز في أحيان أخرى العوامل الذاتية (الإرادية). سؤال «لماذا» يسبقه سؤال «كيف».
كيف تقدم الغرب على العرب (الإسلام)؟ يمكن أن يساعد على فهم آخر للمسألة. والمسألة حتى يمكن الإحاطة بها بحاجة إلى «عقل مفارق». العقل الخاص الذي يمتلك المعرفة ومنهجية تاريخية تربط الذاتي بالموضوعي يعطي فرصة أخرى لإعادة التفكير في كتابات «الفكر العربي المعاصر» التي اختزلت الزمن بالوصف والمقارنة والاستسلام للواقع. هذه الفرصة يمكن التعرف عليها أو التوصل إليها ليس من خلال قراءة التاريخ الإسلامي - العربي بل بإعادة قراءة التاريخ الأوروبي - الأميركي بعقل نقدي مفارق. فقراءة الآخر تكشف الكثير من الغموض الذي يغلف تاريخ الذات ويعطي الأمثلة والدروس والعبر في كيفية التجاوز والذهاب بعيدا في ملاحظة المفارقات والفواصل التي قررت بناء منظومة تقدمت تاريخيا على المنظومة العربية.
مسألة كيف تقدم الغرب وتفوق على غيره تطرق إليها الكثير من الفلاسفة والمؤرخين في أوروبا، وأعطوا أجوبة اختلفت بسبب اختلاف المنطلقات ومناهج التحليل. هيغل مثلا، قرأ التطور العالمي من خلال تطور منظومة الأفكار وتقدم الإنسان من الأدنى إلى الأعلى وصولا إلى التقاء الإنساني والإلهي في سياق تقلب الحضارات التي انتهت في الغرب المسيحي. وماركس مثلا، قرأ التطور العالمي من خلال تطور منظومة الاقتصاد (التشكيلات الاجتماعية) وتقدم الإنسان من المشاعية البدائية (الأدنى) إلى الأعلى (الرأسمالية) وما بعده متوقعا عودة الشيوعية في شكلها الراقي بعد أن تضمحل الدولة ويزول استغلال الإنسان للإنسان.
ماكس فيبر وضع المسألة في إطار مختلف حين ربط بين الدين ورأس المال، ووجد أن بدايات تطور الرأسمالية بدأت مع بدايات نمو الحركة البروتستانتية (الإصلاح الديني) في أوروبا في القرن السادس عشر. نظرية فيبر أثارت النقاش، واستدرجت سلسلة ردود اضطر على اثرها إلى تعديل نظريته وإدخال عناصر إضافية خففت من دور البروتستانتية وزادت من أهمية الدور التاريخي الذي لعبته دول المتوسط أو مدن المتوسط الكاثوليكية البحرية - التجارية في توفير ثروة رأسمالية أسهمت في توظيفها واستثمارها شرائح متنورة في تلك الجمهوريات (المدن).
أهمية نظرية فيبر انها لم تلغِ العامل الديني من معادلة التطور، كذلك لم تغيّب العناصر الاجتماعية (الاقتصادية) في توفير الدافع التاريخي للايديولوجية الدينية في إعادة انتاج نفسها في ضوء التقدم الذي حصل في أوروبا.
تعديلات فيبر على نظريته الأولى أعطت أهمية للبعد الزمني وموقع الدين في لعب دور الرافعة الايديولوجية للنهضة الأوروبية الحديثة. فهو من جهة أعاد النظر في البدايات الأولى (نمو براعم الرأسمالية في جنوب القارة الكاثوليكية المتوسطية) ولكنه طور نظريته الأولى عن صلة البروتستانتية بالرأسمالية حين عالج موضوع علاقة الحرفة (المهنة) بالتركيب الاجتماعي - التنظيمي. فالحرف هي نظام من العلاقات المعقدة التي تجمع بين الاقتصاد والثقافة وبين الاجتماع والدين. ومن خلال ملاحقته لتلك الشبكة المهنية - الاجتماعية رصد فيبر ذاك التطور الكمي لتراكم رأس المال وانتقاله من التجارة إلى الصناعة بعد تلك القفزة النوعية التي أحدثتها حركة الإصلاح الدينية - البروتستانتية في الكنيسة الكاثوليكية وبالتالي انقسامها إلى كنيستين: شمالية أوروبية وجنوبية أوروبية.
نظرية فيبر مهمة لأنها عقدت مصالحة بين الدين والدولة وبين الكنيسة والاقتصاد وبين الاجتماع ودور الإنسان في صنع حاجاته. إلا ان تلك النظرية لاقت مواجهة من اللادينيين الذين اتهموها بالبرجوازية، وأصروا على ذلك التعارض التناحري بين ثبات الدين وتطور الاقتصاد. كذلك لاقت رفضا من الرأسماليين حين أصرت مجموعات أيديولوجية على تقديم التطور الرأسمالي على حركة الإصلاح الديني. هذه المجموعات وافقت على نظرية فيبر وقلبتها رأسا على عقب. وبرأيها أن التحديث الرأسمالي أوجب تحديث الكنيسة وأن التطور الرأسمالي سبق التطور الديني وهو الذي انتج البروتستانتية وليست البروتستانتية هي من أنتج الرأسمالية بدليل أن بدايات النهضة الأوروبية انطلقت من جنوب القارة الكاثوليكي وانتقلت إلى شمال القارة قبل سنوات من ظهور مارتن لوثر قائد حركة الإصلاح الديني.
هذا الخلاف الايديولوجي يكشف عن اختلافات في تصور الحداثة وبداياتها الأولى. فالخلاف هو على التوقيت (اللحظات الزمنية) وعلى المكان (جنوب القارة أو وسطها أو شمالها أو غربها) ولكنه ليس على دور الدين أو العامل الديني في صوغ شخصية أوروبا الحديثة ومساهمته التاريخية - وخصوصا في لحظات التكوين الأولى - في دفع أوروبا نحو التقدم والنهوض. فالنهضة الأوروبية لم تكن ضد الدين بل كانت ضد مؤسسات دينية عطلت الدين والتطور. وحين بدأت النهضة لم تتحول ضد الدين بل تنازعت القوى على تمثيل شرعية الدين. فمارتن لوثر اتهم الكنيسة الكاثوليكية بأنها ليست مسيحية بل انها ضد المسيحية وحركته أصولية أي انها تمثل المسيحية الإنسانية الطبيعية في بداياتها الأولى. وردت الكنيسة على اللوثرية (البروتستانتية) متهمة لوثر بالتجديف والتعامل مع المسلمين لشق الكنيسة وضرب المسيحية في أوروبا.
الخلاف إذا لم يكن بين مسيحي وملحد (أو لا مسيحي) بل بين مسيحي ومسيحي يرى كل فريق منهما المسيحية بطريقة مختلفة عن الآخر. وبسبب هذا الانقسام دفع الإسلام ثمن الحرب بين الكنيستين إذ أخذ كل فريق يتهم الآخر بالتعامل مع المسلمين. وحتى يدافع كل فريق عن نفسه ويرد التهمة اضطر لإعلان براءته من الإسلام بل أخذ كل فريق يزايد على الآخر في شتم الإسلام وتأكيد ابتعاده عنه حتى يرد التهمة. وأدى هذا السجال الايديولوجي الداخلي إلى بروز تيارات سلبية معادية للإسلام وتحض على كره العرب والمسلمين الأمر الذي ورثته تيارات أيديولوجية كثيرة في أيامنا وأخذت تعبر عنه في عصرنا بالمزايدة في التحريض ضد العرب والمسلمين.
مسألة العودة إلى الجذور القديمة لكراهية المسلمين والعرب مهمة لإعادة قراءة تاريخ العلاقة بين العالمين وكيف أن العالم العربي - الإسلامي دفع ثمن صراعات داخلية لم تكن له صلة بتأسيسها سوى تلك المواجهات العسكرية التي أسهمت في تأزيم أو توتير العلاقة بين ضفتي المتوسط.
إلا ان مسألة الكراهية ليست هي أساس تقدم الغرب وتخلف العرب (المسلمين) فهذه كانت من نتاجاته اللاحقة. المسألة في النهاية لها صلة بالتاريخ والجغرافيا، وهي يمكن أن تحيلنا إلى الإجابة عن السؤال المذعور «كيف تقدم الغرب وتخلف العرب؟».
ما قاله فيبر عن تقدم الغرب وصلة الرأسمالية بالبروتستانتية صحيح جزئيا. إلا ان ذاك الجزء له صلة بالكل الذي بدأ في مطلع القرن الخامس عشر حين أخذت مدن جنوب أوروبا البحرية في البحث عن خطوط مواصلات خارج دائرة السيطرة الإسلامية. فالحاجة شجعت على البحث عن معابر جديدة للتجارة الملاحية (البحرية)، وأسهمت في اكتشاف العالم جغرافيا وتحويل خطوط المواصلات وبناء شبكة تجارية مستقلة عن العالم العربي (الإسلامي). وهذه الاكتشافات أوصلت البرتغال ثم إسبانيا إلى الدوران حول إفريقيا والاتصال بالصين والهند مباشرة. ومن هذا الاكتشاف توصلت أوروبا إلى اكتشاف أميركا ظنا منها أنها تريد اختصار الطريق بالوصول إلى الهند مباشرة.
هذه الاكتشافات أسست التراكم الأولي للثروة النقدية وأسهمت في توفير فرص للعمل وتأمين حد أدنى من الرفاهية الاجتماعية وبالتالي التفكير في تطوير التنظيمات والأجهزة والإدارات.
كل هذا التراكم الأولي للتطور بدأ في مدن جنوب أوروبا المتوسطية - الكاثوليكية وبعيدا عن رقابة العالم الإسلامي. ومنها انتقل إلى وسط وشمال وغرب القارة الأوروبية (توسيع سوق الرأسمالية) فانتشر الازدهار المديني (العمراني) الذي انعش الكنيسة وأعطى فرصة لظهور كنيسة جديدة ورجل دين حديث. ومارتن لوثر هو رجل الدين الحديث ذاك، والبروتستانتية هي تلك الكنيسة الجديدة التي نهضت لتواجه الكنيسة القديمة (الكاثوليكية).
نهوض أوروبا (تقدم القارة) لم يتأسس على فراغ أو عوامل ذاتية (إرادية) بل جاء تأسيسا على تطورات موضوعية بدأت بالاكتشافات الجغرافية، تعديل خطوط التجارة الدولية، نمو المدن البحرية في جنوب أوروبا، مراكمة الثروة النقدية الأولية التي أثمرت الرأسمالية المتطورة لاحقا، انقسام الكنيسة والصراع على الدين، انقسام القارة ونمو صلات مباشرة (أطلسية) بين أميركا وأوروبا، وأخيرا تهميش دور البحر المتوسط الحضاري وتطويق العالم العربي وإخراجه من المعادلة الدولية.
حتى نصل إلى الإجابة عن سؤال «لماذا؟» لابد أولا من التطرق إلى سؤال «كيف؟». كيف تقدم الغرب وتخلف العرب؟ والكيف هنا تعطي أكثر من فكرة عن التحولات الأوروبية وهي تحولات بدأت تاريخية - جغرافية وانتقلت لاحقا إلى الاجتماع والدين. فالجانب الاجتماعي له صلة بالإدارة والتنظيم والتقدم والجانب الديني له صلة بالوعاء الإنساني الموروث الذي احتضن التطور واحتواه وسهل له المعابر ووفر له الوسائل للنمو من دون عقبات أو ممانعة شعبية.
سؤال «كيف» يزيل الكثير من علامات التعجب والاستفهام والقنوط والإحباط ويعطي فكرة موضوعية (زمنية - تاريخية) عن دور الخارج في صنع الداخل، وعن وظيفة التدويل وتدخله في أنماط التقدم ووسائل النهوض. والتدويل في هذا المعنى أسهم في تطوير أوروبا ولكنه لعب دورا سلبيا في الضغط على شعوب العالم (وتحديدا العربي - الإسلامي) لتعطيل احتمالات التقدم. وهذا حديث آخر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 686 - الخميس 22 يوليو 2004م الموافق 04 جمادى الآخرة 1425هـ