في كتابه «إعاقة الديمقراطية» يعطي نعوم تشومسكي الكثير من الأمثلة عن دور الولايات المتحدة في تعطيل الديمقراطية في بلدان العالم الثالث وميلها الدائم نحو تفضيل الحكومات الفاسدة والأنظمة العسكرية ودعمها لكل حركات التمرد المسلحة ضد الاحزاب المعارضة للسياسة الأميركية، فهذه الدولة التي وصف تشومسكي سياستها المزدوجة ونفاقها لم تتغير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بل هناك المزيد من الوقائع التي تؤكد ضلوعها في مؤامرات وشبكات لزعزعة استقرار الدول الممانعة أو المعارضة لاستراتيجيتها.
لم يكتف تشومسكي بفضح سياسات واشنطن «الايديولوجية» التي تعتمد الخطاب الاعلامي المنافق وتتبع خطوات لا صلة لها بما تقوله اجهزة الدعاية، بل ذهب إلى كشف دورها السري في حروب المخابرات وترتيب الاغتيالات والتصفيات المبرمجة ضد المدنيين. كذلك القى الضوء على تلك الشبكات السرية التي اقامتها أجهزة المخابرات وتنظيم الارتباطات والاتصالات مع فرق من المرتزقة ومافيات تهريب الاموال ونقلها والمساعدة على «غسلها» حتى تصبح نظيفة وشرعية مقابل رشاوى واقتطاع جزء من الاموال لتعزيز موازنات الأجهزة بعيدا عن رقابة الكونغرس.
حتى في مسائل تهريب المخدرات والمساعدة على انتاجها ونقلها لعبت أجهزة الولايات المتحدة أدوارا متفاوتة اذ كان بعض المحافظين يسهم في ارسال أدوية معينة لانتاج الكوكايين والهرويين وغض النظر عن شبكات التهريب وتسهيل أمور المافيات لنقل الاموال وايداعها في الولايات المتحدة تمهيدا لاعادة توظيفها أو استثمارها في مشروعات «شرعية» و«رسمية».
كتاب تشومسكي الذي غطى حقبة الثمانينات من القرن الماضي بحاجة الى تحديث واضافات لكشف المزيد من الاكاذيب والخدع الاميركية واستمرار الإدارة الحالية في تعزيز ذاك النهج الذي تتبعه واشنطن في إدارة الصراع وتسويق الاهداف عن طريق رفع شعارات تطرح مفاهيم التنمية والديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الانسان وغيرها من برامج ومشروعات، بينما تكون السياسة السرية مغايرة ومختلفة ولا علاقة لها بتلك الافكار. فالأفكار مجرد تغطية لتسويق سياسات تعكس مصالح شركات النفط واحتكارات التصنيع العسكري وغيرها من وظائف لا تقيم أي اعتبار للمثل الانسانية. فالهدف كان دائما هو تمرير المصالح وخدمة مافيات شركات النفط والتصنيع الحربي.
هناك أسئلة: هذا التوصيف المدعوم بالمعلومات والأرقام عن حقيقة السياسة الأميركية هل تغير الآن؟ وهل يمكن القول ان واشنطن في عهد عصابة «البيت الأبيض» تغيرت وأصبحت فعلا تريد الخير والتقدم للشعوب العربية والاسلامية؟ وهل ان الولايات المتحدة بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول اقلعت عن ممارسة نهج النفاق والسياسة الازدواجية؟ وهل تجربة العراق وما حل به من فوضى ودمار وخراب واضطراب هي فعلا ذاك النموذج المميز الذي يريد جورج بوش تصديره الى المنطقة؟ وهل تجربة أفغانستان وما أسفرت عنه من عودة الى زراعة الافيون وتهريب الآثار هي تلك المدرسة التي يريد منها بوش تعليم المنطقة أصول الدين الاسلامي؟
لنفترض ان الولايات المتحدة تغيرت فعلا. فأين هي تلك الوقائع التي تشير الى معالم جديدة للصورة التي تريد واشنطن الظهور بها؟ فهذه فلسطين مثلا وهي الشاهد الدائم على «النفاق الأميركي» لاتزال تعاني من ممارسة واشنطن حق النقض (الفيتو) ضد كل القرارات العادلة التي تصدر عن مجلس الأمن. فمثل هذا الانحياز الذي يتعارض مع غالبية دول العالم يؤكد من دون مواربة على استمرار سياسة النفاق التي وصفها تشومسكي في كتابه «إعاقة الديمقراطية».
أميركا فعلا هي اكثر دول العالم اعاقة للديمقراطية لأن مصالحها الحقيقية تتعارض في نهاية التحليل مع كل نظام حر ومستقل. بل انها تتبع سياسة التشهير والضغط النفسي والامني ضد كل دولة تحاول سلوك النهج التصالحي مع شعبها انطلاقا من احترام الدستور والاصول القضائية.
أميركا لا تريد الخير للعرب والمسلمين ولا لكل دولة تريد الاستقلال والتكيف مع مصالحها وخصوصية شعبها. وما حصل أخيرا في محكمة لاهاي الدولية يؤكد للمرة الألف ان سياسة واشنطن لا تخضع لحسابات العدالة والحق والحرية بل هي مجموعة تكتيكات انتقائية تعارض بعضها ولكنها في النهاية تصب في اطار أهدافها الاستراتيجية.
«اعاقة الديمقراطية» هي الثابت في سياسة الولايات المتحدة وتحديدا حين يتعلق الامر بمصالح العرب والمسلمين. فحين قررت السلطة الفلسطينية رفع قرار محكمة لاهاي الى مجلس الأمن الدولي اعاقته واشنطن وهددت بالفيتو. وحين نقل النقاش الى الجمعية العامة للتصويت عليه حاولت «العدالة» الاميركية اعاقة القرار وصوتت ضده في حين وافقت عليه 150 دولة في العالم.
«إعاقة الديمقراطية» تعني الكثير، فهي تعني تعطيل التنمية والتجارة الحرة والاستقلال وحرية القضاء. وتعني ايضا تكبير رأس شارون وتشجيعه على الاحتلال وسياسة التشدد ومنع الأمم المتحدة من تنفيذ قراراتها. والأهم من ذلك تشجيع الارهاب على النمو والانتشار حتى تغرق المنطقة في بحر من الفوضى والظلام
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 685 - الأربعاء 21 يوليو 2004م الموافق 03 جمادى الآخرة 1425هـ