عندما نشرت الصحافة المحلية عن قرب فتح باب السفر إلى العراق ليتمكن الراغبون في زيارة العتبات المقدسة من استئناف برامج الرحلات الدينية استرجعت ذكريات عدة عن العراق نظرا لأني قضيت كثيرا من أيام طفولتي في النجف الأشرف وذلك أثناء دراسة الوالد الشيخ عبدالأمير الجمري (عافاه الله) العلوم الدينية هناك. فالنجف الأشرف لها ميزات أهمها احتواؤها للمدارس الدينية الكبرى والمكتبات والآثار التي تحكي قصصا من التاريخ عن الإمام علي (ع).
النجف، كما أذكرها، كانت مدينة جميلة ومختلطة المجتمع (العراقي بالإيراني بالبحريني بالخليجي بالافغاني بالهندي)، حتى قرر نظام البعث البائد ممارسة سياساته العنصرية والتي تسببت في تهجير الايرانيين في مطلع السبعينات والثمانينات. وحضرت التهجير الأول ورأيت بأم عيني كيف مارس البعث سياساته الجائرة واضطهد الايرانيين والعراقيين من اصل إيراني وطردهم من منازلهم وسلبهم ممتلكاتهم. ومنذ مطلع السبعينات والنجف ليست تلك النجف القديمة التي عرفها التاريخ، ولعل اسقاط نظام البعث واقامة حكومة اكثر عدلا يعيد لهذه المدينة تراثها الذي سلب منها.
النجف الاشرف تطورت بجهود من خارج العراق اكثر منها من داخله وانفتاحها مرة أخرى قد يساهم في اعادة حال التوازن نظرا لعمقها الفقهي لدى المسلمين الشيعة. وكثير لا يعلم بأن النجف الحديثة انما قامت بأموال هندية أساسا، ولحد الآن فان اكبر الجوامع في النجف هو «الجامع الهندي» والقناة التي كانت توصل المياه إلى المنازل هي «القناة الهندية».
الهند ارتبطت بالنجف بسبب قيام ولاية في شمال الهند ما بين 1722 و1856 عاصمتها «لكنو» تنتمي الى المذهب الجعفري، وبدأت حينها تنافس ايران التي كانت تغدق على العتبات المقدسة ايضا، والدولتان كانتا تستمدان شرعيتهما من المساندة التي تحصلان عليها من النجف الأشرف وكربلاء المقدسة (قم المقدسة تأسست مدرسة دينية في مطلع القرن العشرين) والولاية الهندية كانت تخصص جزءا من ضرائب الدولة وتبعثها الى النجف والى مراجع الدين في النجف.
وعندما هتكت كربلاء وتم تخريبها بعد غزو تعرضت له العام 1801 كانت الولاية الهندية هي التي بادرت بضخ الاموال لاعادة بنائها. وحتى بعد سقوط الولاية الهندية بايدي الانجليز استمرت اموال الاوقاف الهندية في الوصول الى النجف حتى استقلال الهند بعد الحرب العالمية الثانية.
البحرينيون لهم وجودهم المتواصل والملموس، وكان الشيخ يوسف البحراني هو أكبر فقيه في كربلاء عند وفاته العام 1772 وهناك الكثير من العوائل البحرينية التي مازال يطلق عليها اسم «البحراني» تعيش في العراق.
النجف وكربلاء وغيرها من العتبات المقدسة لم تنعم بالهدوء منذ عشرات السنين، ولذلك فان دورها ليس ملموسا على الصعيد الاسلامي بشكل مشابه لما كان الامر في الخمسينات والستينات في القرن الماضي. ولعل عودة الحياة الى هذه المناطق تكون إن شاء الله أكثر من مجرد عودة العادات والتقاليد، فنحن بحاجة الى مقاربة متطورة تتناسب والتحديات التي تواجه الأمة الاسلامية، والنجف دورها ليس فقط في استقبال السياح الدينيين، وانما في ضخ فكر مستنير يعين مراكز الثقافة والعلوم الاسلامية في اضاءة الطريق في عالم يزداد تعقيدا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 684 - الثلثاء 20 يوليو 2004م الموافق 02 جمادى الآخرة 1425هـ