مع انني من أشد أنصار كتابة وتدوين السيرة الفلسطينية المعاصرة «بعجرها وبجرها» كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني، ومع أنني من أكثر المتحمسين للوقوف أمام محاسبة الذات على مستوى الأفراد والفصائل والمؤسسات بروح ديمقراطية بعيدة عن أسلوب التآمر والغدر، واصطناع القصص والروايات كما درج البعض ممن لا يملكون من أدوات الفعل سوى لغة الكيد، والفجع السلطوي، وألسنتهم وما تستتبعه من قصر نظر وشعور أدنى بالمسئولية، إلا انني بالمقابل أسجل الكثير من الملاحظات التي برزت فاقعة في حوارات أحمد جبريل مع قناة «الجزيرة» الفضائية، وانتقاد الأسلوب الفج لأحمد منصور الذي بدا واضحا في أحيان كثيرة من لحظات الحوار، حتى خيّل لي بأن وظيفة الحوار لم تكن دراسة وتقييم التجربة بقدر ما كانت «تكفير» مسيرة العمل الفلسطيني بقضها وقضيضها. ومع هذا يسجل لقناة «الجزيرة» ولشخص أحمد منصور الجرأة في اقتحام عوالم الحوار المغيب، وتحطيم تابو زجاج الانغلاق في سرد وقائع من سيرتنا الفلسطينية والعربية.
وقد تكون الحوارات الجارية مع الأمين العام للجبهة الشعبية (القيادة العامة) أحمد جبريل عبر قناة «الجزيرة» الفضائية هي الأكثر سخونة، والأكثر تعرضا لخبايا الحال الفلسطينية من قبل رمز من الرموز الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة. ومع أن معظم ما تطرق إليه جبريل حتى الحلقة الرابعة عشرة لم يكن بالشيء الجديد للمتابعين في الساحة الفلسطينية وفقا لرواية الجبهة الشعبية (القيادة العامة)، إلا انه يمثل الاطلالة الأوسع للرواية إياها بعد أن كانت الجبهة الشعبية (القيادة العامة) واعلامها في موقع التحفظ لسنوات خلت، والتحفظ المشار إليه وضعها أمام حال إشكال في الساحة الفلسطينية، وهذه الإشكالية ألحقت بها الضرر... والظلم أحيانا، بينما ساهمت بشكل فاعل في العمل العسكرية الفدائي منذ بواكيره الأولى جنبا إلى جنب مع حركة فتح وجناحها العسكري (قوات العاصفة).
وبغض النظر عن فحوى الشهادة التي مازال يقدمها الأمين العام للجبهة الشعبية (القيادة العامة) أحمد جبريل من على منبر قناة «الجزيرة» القطرية ضمن برنامج «شاهد على العصر»، وبغض النظر عن تقييم ما رواه أحمد جبريل في سرده لوقائع من حياة منظمة التحرير وفصائلها المقاتلة، إلا انه قدم بالمقابل مادة على غاية من الأهمية لكنها كانت بقالب جاف، وجامد، ومسلوخ بالكامل عن عباءة السياسة، فافتقدت مادة الحوار عناصر الربط والوصل بين تكتيك وضرورات كل مرحلة بما في ذلك تفسير الروح البراغماتية العالية التي تعاطت فيها قيادة حركة فتح مع منطق الحدث السياسي ذاته منذ الانطلاقة وصولا إلى اللحظة الراهنة، بينما راوحت الجبهة الشعبية (القيادة العامة) عند ثوابتها وتمسكها بالعمل الفدائي الذي أبدعت به من دون أن تبادر للربط بين العملين: العسكري الفدائي والسياسي على الأرض. لذلك لم يبقَ من وظيفة للمادة السردية التي قدمها ومازال جبريل سوى أن تكون مادة تصلح لفتح النوافذ أمام عملية للبحث والاستقصاء عن المسار الشائك والمعقد الذي عبرت فيه منظمة التحرير والقوى الفلسطينية محطات مختلفة من حياتها ومن عمر الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي سبر حقيقة التفريق بين خلافات قامت بين عقليتين في الساحة الفلسطينية بينهما تباين تكتيكي وافتراق في الفهم الخاص. وبالضرورة فإن السيرة ستبقى ناقصة من دون سماع الرأي الآخر أمام الجمهور الواسع.
وما زاد من جفاف مادة أحمد جبريل على أهميتها التاريخية، القاء كل المهالك والمساوئ على حركة فتح باعتبارها «جمل المحامل» الأكبر والأوسع تنظيما و«لحمها أزرق وجلدها سميك تتحمل النقد»، وتحميل ياسر عرفات المسئولية شبه الكاملة وتناسي الدور السلبي الذي لعبته الكثير من القوى التي دارت في فلك فتح وعلى محيط دوائر الاستقطاب الإقليمية، هذا إذا ما أضفنا دور المحاور أحمد منصور، الذي لم يتخذ موقف المحاور الند، بل ذهب أكثر من ذلك في سياق سعي قد يكون الهدف منه «بهدلت» الحال الفلسطينية بعيدا عن الدخول في تفاصيل «تلابيب» حقول الألغام المفروضة التي سارت عليها منظمة التحرير الفلسطينية وتحديدا فصائلها المؤثرة والمقاتلة (حركة فتح، الجبهة الشعبية، ... تماما كما فعل سابقا في تقديم حوارات عبر شخصيات تناولت الحركة الناصرية والبعثية، فاستضاف الكثير من رموزها الذين لم يحسنوا في تقديم الحركة القومية بشكل مفهوم سياسيا وعلى مستوى الممارسات بسلبياتها وإيجابياتها. وعليه فإن حوارات جبريل وان قدمت معظم الحقيقة بصوغها الجاف، إلا انها قدمتها مكسورة وهبطت بها أمام المشاهد إلى أدنى من ربعها، وساهم بكسرها تدخلات أحمد منصور اللامتوازنة الذي ساهم بإعطائها لباسا قاتما ضاعت بين خيوطه النقاط المضيئة للتاريخ الفلسطيني المعاصر، وتحول الفلسطينيون فيها إلى «قطاع طرق» وهواة حروب تصفيات، ومن دون قتال حقيقي لعدوهم الإسرائيلي.
في هذا السياق، وفي مجال العلاقات الفلسطينية الداخلية، فإن ومضات مضيئة بدأت تفرض نفسها في التعاطي الفلسطيني الداخلي بين مختلف القوى من حيث السمو في التباينات والخلافات، وعليه فإن حوارات أحمد جبريل عبر حلقات «شاهد على العصر» التي تبثها قناة «الجزيرة» الفضائية القطرية، لن تشكل على الغالبية عامل «كسر» في التقارب الفلسطيني الداخلي وتحديدا بين حركة فتح والجبهة الشعبية (القيادة العامة)، الأمر الذي يمكن تلمسه من خلال اللقاءات المباشرة مع كوادر من الطرفين، وفي اللقاءات الحميمة بين أحمد جبريل ونائبه طلال ناجي مع الوفود الفتحاوية الدائمة الحضور إلى دمشق على رغم العتب الفتحاوي الذي تبلغته الجبهة الشعبية (القيادة العامة) باتصالات مباشرة مع مستشار أبوعمار نبيل أبوردينة
العدد 682 - الأحد 18 يوليو 2004م الموافق 30 جمادى الأولى 1425هـ