العدد 681 - السبت 17 يوليو 2004م الموافق 29 جمادى الأولى 1425هـ

التنافس الفرنسي الأميركي على منطقة شمال إفريقيا

زيارة وزير الخارجية الفرنسي للجزائر

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

بغض النظر عن تأكيد الفرنسيين والأميركيين بشكل دائم عدم وجود تنافس بينهما في منطقة شمال إفريقيا، إلا أن الوقائع تدل على عكس ذلك تماما. فمنذ نحو سنة وفرنسا تبذل جهودا استثنائية لاستعادة الدور الذي فقدته في المغرب العربي. وذلك عبر إعادة صوغ استراتيجيتها بحيث تتماشى مع مطالب «مستعمراتها السابقة» من جهة، ومن جهة أخرى العمل على عرقلة الاختراق الأميركي الجاري على قدم وساق على المستويات كافة. فالزيارة التي قام بها منذ أيام وزير الخارجية الفرنسي ميشال بارنييه للجزائر التي ستليها بدءا من الثامن عشر من الشهر الجاري زياراتا كل من وزيرة الدفاع ميشال أليوماري ووزير الاقتصاد والمال ميشال ساركوزي تدخل في هذا الإطار. لكن وصول المندوبة الأميركية المكلفة بشأن «مبادرة المشاركة في الشرق الأوسط» الينا رومانوفسكي لم تشوش على حفل «الباليه» الفرنسي فحسب، بل جاءت لتبين للجميع أن أميركا لن تترك الساحة لأحد، تماما كما فعل كولن باول عشية انعقاد قمة 5+5 للحوار اليورو - متوسطي في تونس في مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فالزيارات والزيارات المضادة ترسم بشكل قاطع ملامح صراع المصالح في هذا الجزء من العالم في المرحلة المقبلة.

أما الملفت في الموضوع، فهو تحول فرنسا من الأخذ بالأطراف المغاربية فرادى إلى اعتماد التعاطي «بالجملة»، وفق الاستراتيجية الأميركية التي كان وضعها «آيزنستات» في عهد الرئيس بيل كلينتون، والتي أضافت إليها إدارة بوش اليوم مبدأ التعاطي الثنائي وتعزيزه. من هنا يطرح السؤال عن إمكان فرنسا لعب ورقتي التعاطي في آن معا؟

عودة إلى الاتفاقات الدفاعية

تبذل فرنسا جاك شيراك جهودا استثنائية لمواكبة الوتيرة المتسارعة للتحركات الأميركية في منطقة شمال إفريقيا. الأمر الذي دفع بها إلى حد إعادة النظر في سياستها حيال بلدان المغرب الغربي تحديدا. وذلك من خلال طرح صيغ مختلفة من التعاون الاقتصادي والسياسي تؤدي إلى بناء «شراكات مميزة» كالتي طرحتها باريس حديثا من خلال زيارة وزير خارجيتها للجزائر. وتفيد المعلومات المستقاة من محيط هذا الأخير، أن «التعاون في مجال الدفاع» سيكون جزءا لا يتجزأ هذه المرة من ملف تنمية العلاقات الثنائية بين الدولتين، وخصوصا مع زيارة وزيرة الدفاع الفرنسية للجزائر، الأولى من حيث طابعها «السياسي»، بحسب المعلومات عينها. وكان الرئيس شيراك عبّر مرات عدة أمام نظيره الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، عن الإرادة الجدية لناحية توقيع «اتفاق دفاع» من دون تحديد بنوده بين البلدين، ما دفع ببعض المصادر المقربة من مقر الإليزيه إلى الإشارة إلى أن هذه الرغبة تؤكد وجود تعديل جوهري في الموقف الفرنسي حيال الجزائر. فالاتفاق الدفاعي ذو الصلة، كما يراه الرئيس الفرنسي، يعني أن حكومته مستعدة اليوم لتقديم تسهيلات لعقد صفقات يتم بموجبها بيع الأسلحة للجزائر عبر الأقنية التقليدية، من دون المرور بلجنة الدفاع في الجمعية الوطنية والحصول على موافقتها، علما بأن هذه الأخيرة كانت مانعت منذ مطلع عقد التسعينات توقيع أية صفقة ذات طابع عسكري مع الجزائر. فتجاوز شيراك هذه العقبة يعني أن هذه الأخيرة لم تصبح مقبولة اقتصاديا فحسب، بل باتت مصنفة في عداد الدول التي يُسمح لها بالحصول على أسلحة دفاعية، حالها في ذلك، حال باقي دول المغرب العربي، إذ لم يعد من الجائز، بحسب الأوساط المقربة من شيراك، أن يبقى هذا البلد، العضو في «الحوار المتوسطي»، المنبثق عن حلف شمال الأطلسي والذي يحارب الإرهاب بضراوة وبكل أشكاله، محروما من الدعم العسكري الغربي الذي يساعده على القيام بمهماته على أكمل وجه.

وترى فرنسا اليوم أن عودة الجزائر من هذه البوابة باتت مسألة منطقية، إذا ما أُخِذَ في الاعتبار موقعها الجغرا-استراتيجي في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. وذلك على غرار ما هو حاصل مع الجار المغربي الذي يحظى باهتمام أميركي وفرنسي على السواء. يشار إلى أن العرض الفرنسي يأتي متوافقا من حيث التوقيت مع المناورات الأطلسية الواسعة قبال السواحل المغربية التي أُطلق عليها اسم «ميد شارك - ماجستيك إيغل 4»، التي جرت بعد قرار واشنطن منح المملكة المغربية صفة «حليف أساسي» من خارج منظمة حلف شمال الأطلسي. فالواضح من وراء محاولة فرنسا استمالة الجزائر عبر البوابة الدفاعية، يستهدف الإمساك بطرفي العصا، بمعنى أنها ستبدأ تعاونها العسكري مع الجزائر - ما تتجنبه واشنطن حتى الساعة على رغم التنازلات المقدمة إليها من الجزائر - وتوثقه مع كل من المغرب وتونس، بهدف تأمين عودة شمولية إلى منطقة شمال إفريقيا، تكملها بتعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية.

وتراهن فرنسا في هذه المرحلة من خلال الزيارات التي يقوم بها مسئولو أبرز وزارات حكومتها، على التوصل إلى توقيع «اتفاق صداقة وتعاون» مع الجزائر، على أساس المساهمة في استعادة أجزاء من دورها المفقود. ويمكن القراءة بين السطور إرادة باريس الحصول على حصة الأسد في العقود المدنية، البنيات التحتية خصوصا، ذلك في حين لا تخفي فرنسا خشيتها من تزايد نفوذ الولايات المتحدة في قطاع الهيدروكربورات، ما يشكل بحسب رأي المحللين الفرنسيين تهديدا في المستقبل لمصالحها في هذا القطاع، وحتى على استمرار تزودها بالغاز الجزائري وفق شروطها الحالية. ولا تخفي فرنسا من ناحية أخرى، قلقها من تعزيز الشركات النفطية الصينية واليابانية والإسبانية والإيطالية.

فعدا المشكلة الأساسية المتعلقة بالهيدروكربورات، فإن لدى فرنسا سببا رئيسيا آخر يدعوها إلى القلق من الوجود الأميركي في الجزائر بعد المغرب. اذ يتعلق الأمر بقرار واشنطن جعل منطقة المغرب العربي حليفا استراتيجيا لها على مراحل. فالولايات المتحدة بدأت منذ سنوات اعتماد صيغة تعاون عسكري مع بلدان هذه المنطقة، بغض النظر عن الصيغ المعتمدة والمتنوعة. ما يعتبر كافيا لإثارة مخاوف الاستراتيجيين الفرنسيين. ويؤكد هؤلاء أن الأميركيين لن يألوا جهدا في المدى المتوسط، لإدماج المغرب الغربي في شبكتهم الدفاعية الإفريقية. ويستند الاستراتيجيون الفرنسيون في تحليلاتهم إلى إنشاء قاعدة في مالي، فبمجرد التفكير في فرضية دخول أميركا إلى إفريقيا السوداء عبر المغرب العربي يشكل كابوسا بالنسبة إلى السلطات الفرنسية التي لاتزال تعتبر القارة السوداء الناطقة بلغتها عمقا استراتيجيا لها. وتنظر باريس بحذر بالغ إلى المنافسة الأميركية في عدة بلدان إفريقية مثل السنغال، المحسوب عليها تاريخيا.

فالتخوف المتزايد من النفوذ الأميركي دفع بباريس، على ما يبدو، إلى تقديم تنازلات أبرزها القبول بعقد صفقات عسكرية دفاعية حتى قبل رفع الحظر من قبل الاتحاد الأوروبي. هذا ما يفسر زيارة ميشال بارنييه لبروكسل عشية سفره للجزائر. فبانتظار ظهور نتائج «الهجمة الفرنسية» على الجزائر، لا تعطي واشنطن أي انطباع حتى اللحظة، يمكن أن يستنتج منه أنها يمكن أن تعيد نظرها فيما بات من الثوابت بالنسبة إليها في منطقة المغرب العربي.

الصحراء الغربية... حجر الزاوية

في اللقاء الذي تم في واشنطن في الأسبوع الماضي بين العاهل المغربي الملك محمد السادس، والرئيس الأميركي جورج بوش، كان موضوع الصحراء الغربية على رأس جدول الأعمال، فخلافا لتوقعات بعض المحللين، لم يمارس هذا الأخير أي ضغط على ضيفه بهذا الشأن، وخصوصا بعد تخلي جيمس بيكر عن مهمته وسيطا في هذا الملف. فالمبادرة جاءت من ملك المغرب لناحية قيام الولايات المتحدة بدور مباشر للمساهمة في إيجاد حل توافقي من دون التنازل عن الوحدة الترابية للصحراء. فالموقف الأميركي الذي لم يتبدل، والذي يأخذ في الاعتبار مسألة عدم الضغط على المغرب في هذه القضية يشجع فرنسا على وضع هذا الموضوع في صلب مباحثات وزير خارجيتها. ما دفع بأصحاب القرار في الجزائر إلى استباق زيارة الوزير الفرنسي بتحريض الصحف المقربة منها على كتابة افتتاحيات أشارت إلى الضغط الفرنسي والإسباني المشترك على الجزائر «لبيع» جبهة البوليساريو. ففرنسا التي أرادت تسجيل نقطة في مرمى الأميركيين عبر إقناع الجزائر بإجراء حوار مباشر بينها وبين المغرب بغرض تسوية نزاع الصحراء الغربية مُنيت بفشل واضح. إذ إنه في المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقد بين بارنييه ونظيره عبدالعزيز بلخادم، رد هذا الأخير على المطلب الفرنسي بوضوح من خلال قوله: «إن الحكومة الفرنسية لا تقترح حوارا مباشرا بين الجزائر والمغرب (بشأن الصحراء)، وإنما حوارا من أجل تسوية العلاقات الثنائية بينهما»، ما حدا بالوزير الفرنسي إلى استدراك الأمر ليؤكد أن باريس لا تريد لعب دور الوسيط بين البلدين الجارين.

المهم في الموضوع أن فرنسا فهمت أن الجزائر لا تستطيع تجاوز دور الولايات المتحدة في هذه القضية المعقدة، حتى ولو أبدت استعدادها للتجاوب مع مطالب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لناحية القبول بفتح «البوابة الدفاعية» وتوقيع اتفاق صداقة. هذه المؤشرات وغيرها تؤكد أن أميركا أصبحت لاعبا أساسيا في منطقة المغرب العربي، وأن دولها لم تعد، كما في السابق، حقولا مشاعة للنفوذ الفرنسي، على رغم المحاولات المكثفة لاستعادة أجزاء فقدتها باريس منذ مطلع التسعينات نتيجة سياسات خاطئة اعتمدت حيال دول المغرب العربي. على أية حال، بدا من الواضح أن الجزائر تفضل التريث في الذهاب بعيدا مع فرنسا حتى لا تغضب أميركا. كما أنها تجنح نحو التمهل في قراراتها بشأن الاتفاقات مع فرنسا قبل الانتخابات الأميركية التي يراهن فريق من أصحاب القرار في الجزائر على فوز الديمقراطيين، لأن من شأن ذلك تغيير بعض المعادلات في المنطقة، وخصوصا أن هذا الفريق يحاول الإيحاء بأن الجمهوريين هم حلفاء تاريخيون للمملكة المغربية.

فأيا تكن تصورات البعض في الجزائر وفي دول المنطقة، فإن الولايات المتحدة لا يمكن أن تعدل ببساطة في الثوابت الجغرا-استراتيجية. فهي تريد منطقة المغرب العربي حليفا «بالجملة» وليس «بالمفرّق». من هنا يمكن استشفاف حدة المنافسة في الأشهر والسنوات المقبلة مع فرنسا. هذه الأخيرة التي بدأت تدرك خطورة الإصرار الأميركي وتعمل بالتالي على أساس مواجهته وإعاقة تقدم مشروعه في منطقة تعتبرها حيوية واستراتيجية بالنسبة إلى نفوذها ومصالحها

العدد 681 - السبت 17 يوليو 2004م الموافق 29 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً