ترافقت الاصلاحات منذ تدشينها مع تطورين رئيسيين، الاول اشكال مستجدة لحرية التعبير تجاوزت الاشكال التقليدية كالنشر والمنتديات إلى أشكال الاحتجاج الجماهيري كافة مثل التظاهر والاعتصام. والثاني اشكال مستجدة أيضا من الانفلات الأمني كالسرقات المسلحة واخرى تتسم بالجرأة مثل وقوعها في النهار.
أما وجود البرلمان كتعبير عن المشاركة السياسية، فإنه لم يؤثر كثيرا في صوغ نوع الجدل الذي ساد منذ انطلاق الاصلاحات قبل نحو العامين، بل اصبح البرلمان اسيرا لهذا الجدل.
عدا ذينك التطورين الاساسيين، تبقى ملاحظة التقدم في الميادين الأخرى صعبة والمؤشرات الحية غائبة. يكثر الحديث عن مشروعات اقتصادية من حين لآخر، لكن يصعب القول ان الشق الاقتصادي للاصلاحات السياسية مكتمل ويملك رؤية شاملة. مشروع سياحي في هذه المحافظة، آخر في تلك المحافظة ووعود بكل شيء في الاقتصاد لكن المحصلة: القطاع الخاص مازال يشكو التهميش والأسواق لا تظهر فيها أية ملامح انتعاش أو نمو اقتصادي.
يكافحون البطالة؟ حسنا ومع احترامنا لكل المبادرات المطروحة في هذا الصدد من خطط احلال واستهداف تدريجي لقطاعات اقتصادية، فإن من الصعب القول ان هناك خطة وطنية لمكافحة البطالة لأن مثل هذه الخطة يجب ان تبنى على اساس خطة اقتصادية شاملة.
لماذا أصبحنا محكومين بجدل «الحرية والانفلات»؟ ثمة من يرى ان مشكلاتنا لا تحل إلا بمزيد من الديمقراطية. وثمة من يرى أن ما اكتسبناه من الإصلاحات جيد ويمكن البناء عليه، لكن ثمة من يرى ان ما يجري كثير علينا ويتعين ضبطه. يتحدثون عن «الانفلات الأمني» لكننا نشعر بأن المقصود هو «الحريات». فالخلط قائم بين مكافحة السرقات وبين التظاهر والاعتصام، لأن حرية التعبير والحريات الشخصية ليست مألوفة او مستساغة لدى جهاز اداري لم يعتد ان يناقشه احد او يحاسبه. وحتى لدى فئات عريضة من الناس ليس في قاموسها مفردة اسمها: «حرية التعبير» أو «الحرية الشخصية». النتيجة مخيفة: برلمان مأخوذ مثل بقية الناس بتنامي السرقات وجرأتها وتطور اساليبها، لكن نوابه عندما يفكرون في حل فليس ثمة حل سوى «الحل البوليسي» في أسوأ وجوهه القمعية: جهاز حكومي للامر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما الحكومة فترد التحية للنواب بأفضل منها: شرطة المجتمع. اقتراحات تعيد تذكيرنا دوما بأسوأ التجارب: حلول تذكرنا بـ «الشبيبة النازية» و«الشبيبة الفاشية» التي كانت تقتحم البيوت والمتاجر والمقاهي من دون اذن أو تفويض لتفرض النظام بطريقتها الخاصة او حتى شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بالنهاية ستكون حياتنا اليومية محكومة بمقايضة كريهة: الحريات أو الأمن.
ماذا ستفعل شرطة المجتمع؟ هل سيكون افرادها موظفين رسميين ام متطوعين؟ ما مهماتهم؟ من سيحدد لهم هذه المهمات؟ وبأي مقياس؟ ما التفويض الذي سيمنح لهم؟ ما الوجه القانوني لهذا التفويض؟ هل هو تفويض دستوري أم اداري؟ ما مقاييس الفعل المجرم الذي يستوجب الابلاغ من قبل شباب شرطة المجتمع؟ هل يحق لهم بموجب مهمتهم التلصص على منازلنا وعلى الافراد المارين في الشارع لمحاولة اكتشاف اية نوايا سيئة؟ هل يكتشف اللصوص بالتدقيق في اشكالهم؟
في نهاية المطاف سيرسخ لدينا احساس كريه في حياتنا اليومية، احساس لطالما جاهدنا طيلة العقود الماضية لكي نتخلص منه: «اننا مراقبون». فيما مضى كنا مراقبين من دون دستور ولا حريات وبالقسر، أما اليوم فنحن مراقبون باسم الاصلاح وبمباركة البرلمان من قبل شبان صغار كانوا متعطلين ويراد خلق وظائف لهم اليوم لكن على حساب اهم مكتسباتنا: الحرية.
أؤكد لكم ان الردود التي يمكن ان يثيرها هذا الموضوع ستجدون فيها العبارة الخالدة: الحرية لا تعني الفوضى. نعم فنحن من وجهة النظر هذه لا نستحق الحرية وعلينا ان نضحي بها من أجل الأمن
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 680 - الجمعة 16 يوليو 2004م الموافق 28 جمادى الأولى 1425هـ