في ستينات القرن الماضي كان المستمع العربي مشدودا إلى مصر الناصرية. آنذاك كان مشروع جمال عبدالناصر يمثل الأمل العربي الجديد لمساحة واسعة من الجماهير الممتدة من المحيط إلى الخليج. وكانت صلة الجماهير مع ذاك المشروع إذاعة «صوت العرب». فتلك الإذاعة كانت تصدح ليل نهار معلنة عن بزوغ فجر جديد يحمل في طياته الحرية والاستقلال والعدالة. وربح عبدالناصر في تلك الجولة السياسية معركة الإعلام وكسب ثقة الجماهير وتحول المشروع العربي إلى نوع من «الخرافة» التي ترسخت في الذهن ولم يعد بالإمكان اقتلاعها إلا بهز تلك الثقة التي عقدتها إذاعة «صوت العرب» بين الجمهور وعبدالناصر. فالمشروع العربي آنذاك اعتمد على الاذن وحسن الاستماع إلى غد مشرق بدأ يطل على المنطقة.
استمر التجاذب إلى فجر 5 يونيو/ حزيران 1967 فكانت الهزيمة. والهزيمة كانت مدوية ومتعددة الوجوه. فهي بدأت عسكرية وانتهت بنزع الثقة من الجمهور العربي بـ «صوت العرب». والهزيمة الثانية لم تقل تأثيراتها السلبية - النفسية عن الأولى. فالأولى أمكن إصلاحها وتصحيحها وهذا ما حصل جزئيا في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أما الثانية وهي سقوط الثقة بين المستمع والمذيع فكانت مدمرة. فالجمهور العربي بعد هزيمة يونيو فقد ثقته وأحبط نفسيا ولم يعد يصدق كل ما يصدر عن الإذاعات العربية حتى لو ذكرت الوقائع. فالهزيمة انتزعت الثقة وتحول المستمع إلى الإذاعات الغربية والإعلام الأجنبي كمصدر للمعلومات أو لتأكيد أخبار ترددها وسائل الإعلام العربية. ووصل انهيار الثقة إلى درجة مدمرة حتى بات المستمع يميل إلى التنصّت إلى إذاعات «صوت أميركا» ولندن (بي. بي. سي) وأحيانا «إسرائيل» للتأكد من صحة الأخبار. فالجمهور لم يفقد ثقته بالمشروع العربي وضرورته التاريخية لانقاذ الأمة من التفكك والتخلف إلا انه فقد ثقته بصدقية ما يقال له في وسائل الإعلام العربية.
كان من الصعب ترميم تلك الجسور المنهارة. وزادت المسألة صعوبة حين نجحت الأنظمة في استكمال سيطرتها على وسائل الإعلام وتحولت معظم تلك المحطات إلى أجهزة دعاية ونفاق أكثر مما هي وسائل لنقل المعلومات والأنباء وتحليلها وقراءة خلفياتها ومدلولاتها.
النفاق الإعلامي كان كارثة عربية بامتياز، فهو لم يعطل إمكانات الوعي بل انه أحبط احتمالات التفاهم بين الدول والشعوب. فالشعوب مطرقة الرأس تتظاهر بالقبول والاقتناع بينما حقيقة الأمر غير ذلك. فالشعوب ردت على أنظمتها بالسلاح نفسه. فالأخيرة تطبل وتزمر والأولى تتظاهر بالفرح وترقص كيدا.
مصادرة الأنظمة لأجهزة الإعلام أسهمت في تعميق الهوة بين الدول والشعوب وقللت من احترام المجتمعات لسياسات الحكومات وزادت من اعتمادها على وسائل الإعلام المضادة لمعرفة الحقيقة حتى لو كانت مغشوشة ومسمومة. والأنظمة فرحت بانتصاراتها الوهمية وتوهمت انها خدعت الناس. والناس كانت تتظاهر بقبول الأمر الواقع ولكنها كانت تعلم بأن الأنظمة أسست أجهزة الإعلام للتستر على المعلومات والحقائق بينما وظيفة الإعلام هي كشف المعلومات واظهار الحقائق. ولأن العكس هو السائد، انعكس مزاج المستمع العربي وتحول إلى لقمة سهلة تستطيع الأجهزة الغربية ابتلاعه واقناعه بالأكاذيب وابعاده عن الحقائق.
دفعت هذه السيطرة الرسمية بعض القطاعات الخاصة إلى التحرك إعلاميا من خارج المساحة العربية فتوجهت إلى باريس ولندن لإطلاق وسائلها الخاصة بهدف استعادة الثقة المفقودة. هذه المحاولة كانت جيدة إذ إنها أسست خطوات أولى نحو استرداد المستمع والقارئ والمشاهد العربي بعد غياب طويل عن مسرح السياسة العربية.
استمر الاهتزاز إلى تسعينات القرن الماضي وبدأ الإعلام العربي غير الرسمي يستعيد عافيته في ضوء تحديات كبرى أطلقها الإعلام الغربي في وجه المشاهد العربي تحت وقع الجيوش الغازية في حرب الخليج الثانية.
في التسعينات وبعد 30 سنة من الإحباط وسقوط الصدقية بدأ الإعلام العربي المرئي برد التحدي وشق طريقه وسط صعوبات محلية وإقليمية كثيرة مستعيدا بعض الاعتبار لدوره ومكانته خارج المنظومة الإعلامية الرسمية.
الآن وبعد أقل من ثماني سنوات على إطلاق «الجزيرة» وأكثر من سنة على إطلاق «العربية» تحول الإعلام العربي إلى قوة منافسة للإعلام الغربي. وعلى رغم أن التجربة قصيرة حصل التحول المطلوب. فالمستمع العربي بدأ يتغير مزاجه وأصبح لا يصدق أخبار «صوت أميركا» ولندن وغيرها من وسائل غربية إذا لم تؤكد الأنباء محطات عربية.
هذا الانقلاب في المزاج يشير إلى تطور نوعي وهو عودة الثقة إلى مستمع/ مشاهد أصيب بهزيمة في 1967 أفقدته توازنه إلى حد أنه لم يعد يصدق. استرداد الصدق هو بداية ترميم جسور الثقة بين دول وشعوب، وهو خطوة لابد منها للخروج من آثار هزيمة يونيو النفسية. إنها بداية، ولكنها على الأقل بداية صحيحة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 680 - الجمعة 16 يوليو 2004م الموافق 28 جمادى الأولى 1425هـ