وظّف الكاتب علي أحمد الديري الأسطورة والأمثال والفرضيات الأساسية في التحريض على التفكير والتعبير المجازي المتصل بالحكايات الأسطورية الخيالية، في ورقة رائعة ذات عبارات بلاغية متراصة تسحر العقول تحت عنوان «كيف نعبر بالمجازات؟» مقدمة ضمن ورشة «التعبير ومجازات الإبداع» التي أقيمت في مدرسة الزهراء في مارس/ آذار 2004م لمعلمي ومعلمات اللغة العربية.
استخدم الديري قصصا مجازية لاستثارة الفكر وفن الإقناع وأنسنة الأشياء والفهم والاتساع، وهذا بطبيعة الحال ليس الموضوع الذي حوله يجري الحديث، وإنما وددت الاستعارة بأسطورة «سرير بروكست» اليونانية بإسقاطاتها من ورقته، ومن ثم لي تعليق على أشياء أخرى سأذكرها تباعا:
«تروي الأسطورة اليونانية أن السيد بروكست كان خارجا على القانون وعاصيا للدولة التي لم تتمكن من إلقاء القبض عليه، وعندما نجح أحد الحكام في محاصرته، في منطقة من مناطق اليونان وضاقت عليه منافذ الهروب، واقترب موعد وقوعه في قبضة الدولة، عمد هذا الفار من وجه العدالة إلى صنع سرير على مقاسه هو وبدأ يخطف المارة ويرغمهم على التمدد على السرير، فمن كانت قامته أقصر من السرير كان قاطع الطريق يمطه حتى تطول قامته، أي حتى يفارق الحياة، ومن كانت قامته أطول من مقاس السرير كان يقطع رأسه وأطرافه ويتركه جانب الطريق حتى يفارق الحياة أيضا».
إلى هنا تنتهي الحكاية الأسطورية، إلا أن مقاييسها لم تنته بعد، وخصوصا عندما تكون النظرة للأمور لأي كائن كان بمقياس «سرير بروكست»، فهي فعلا معضلة عويصة ونهاياتها معروفة (الموت بالمط أو بالقطع للأطراف أو للرأس) لكل من يمر بطريق بروكست!.
عندما قرأت مقترحا بقانون «الجمعيات السياسية» الذي وافق عليه مجلس النواب ورفعه إلى الحكومة تذكرت «سرير بروكست» ومقاساته، فالنواب الموافقون على هذا المقترح؛ أما جلهم متلبسون بقانون أمن الدولة المقبور ويحنون إليه، أو جلهم لا علاقة لهم البتة بتاريخ البحرين السياسي والحزبي، وربما: الاثنين معا! طموحهم الديمقراطي محدود، وليس لهم اهتمام بتحديث الدولة العصرية لا ارتباطا ولا طموحا بعصرنتها كما يزعمون في أحاديثهم. فهذه ليست شتيمة (حاشاهم): فالقانون عادة، ينظم الحريات العامة ولا يقيّدها، وهذا المقترح يقيّد الحريات ولا ينظمها إطلاقا؛ وموافقة على قانون من هذا النوع فهو «بروكست نفسه» يمط من يشاء مطه ويقطع أطراف من يشاء قطع أطرافه، وليس هذا فحسب، بل إلغاء ذاكرته وتاريخه أيضا.
كنا نتوقع أن يشرعن مجلس النواب عمل الأحزاب السياسية العلنية، وأن نتقدم خطوة إلى الأمام صوب العملية الديمقراطية، بدل أن نتراجع خطوتين إلى الخلف، فاستبدل النواب «الأحزاب بالجمعيات»، ولأننا نؤمن بالتدرج قلنا: لا بأس، فبعض الجمعيات خارجة من رحم تنظيمات سياسية وطنية، وهي امتداد تاريخي لها، وامتداد لعلاقاتها الفكرية مع الأحزاب والتنظيمات الأخرى في البلاد وخارجها، ولم يتغيّر في المسألة شيء، لكن أن يمحى التاريخ النضالي هكذا بكل بساطة، وتقلب صفحته وكأن شيئا لم يكن، ويضع وزير العمل «القواعد المنظمة لاتصال الجمعية بأي حزب أو تنظيم سياسي أجنبي»، إضافة إلى فرض جملة من القيود على حركة الجمعيات السياسية السلمية، لا يتسع المجال لذكرها هنا، فإن الأمر يستدعي حاجتنا إلى «ذبابة الخيل» التي تستفز الحصان، وتحرّض على التفكير عند أرسطو.
في 15 فبراير/ شباط المقبل من المفترض أن يحتفل اليساريون البحرينيون بالذكرى الخمسين لتأسيس أول حزب يساري في الخليج، باستثناء العراق وإيران، وهو (جبهة التحرير الوطني البحرانية - «جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي» حاليا) ولا نعرف على وجه الدقة: هل احتفال هذه الجمعية بهذه الذكرى العزيزة حتما على قلوبهم، ستتم «سرا أم علنا»، بالذكرى الـ 50 للجبهة أم بالذكرى الرابعة للجمعية مع إلغاء التاريخ النضالي الطويل لهذا التيار من الذاكرة الوطنية بموجب «قانون الجمعيات»؟
العدد 679 - الخميس 15 يوليو 2004م الموافق 27 جمادى الأولى 1425هـ