العدد 679 - الخميس 15 يوليو 2004م الموافق 27 جمادى الأولى 1425هـ

التدويل... وأزمة الفكر العربي المعاصر

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل يمكن القيام بحركة تصحيحية في الفكر العربي (الإسلامي) المعاصر بعد وصوله إلى حائط وانسداد آفاق التطور أمامه؟ تصحيح الفكر العربي مسألة صعبة بعد دخوله في تكرار ذاته والعجز عن انتاج الجديد. فالكثير من القضايا المكررة تحولت إلى بديهيات ولم يعد بالإمكان كسر قانون الوعي المصادر الذي قولب بعض الأفكار وحدد نسقها الايديولوجي عشرات المفكرين. المسألة صعبة لأنها تتطلب أساسا إعادة النظر في مئات الكتب التي صدرت خلال فترة 150 سنة من «التغريب» وتحولت إلى نوع من القناعات الذهنية الراسخة في قعر الذاكرة العربية واللاوعي المتوارث. فإعادة النظر أشبه بالانقلاب وهذا من المهمات الصعبة وخصوصا بعد أن وصل الفكر العربي المعاصر إلى مستوى من الخواء الايديولوجي وتفرغ من إمكانات التقدم أو المواجهة.

عملية التصحيح صعبة. إلا ان المشكلة ستبقى قائمة إذا لم تتم إعادة قراءة نقدية لجوهر العناصر التي استند عليها أو انطلق منها الفكر العربي المعاصر. فإعادة القراءة النقدية ضرورية حتى يتم تصويب الأخطاء التي ارتكبت بناء على تصورات (فرضيات) أنتجت مجموعة من المصطلحات الذهنية باتت تشكل عقبات أمام كل محاولة لكسر الجمود والتجاوز.

وفي حال عدنا إلى التراث الإسلامي فسنجد الكثير من المناهج النقدية التي أسهمت في تنوير حركة الاحياء، وأنتجت سلسلة خطوط متوازية لعبت أدوارا متفاوتة في الخروج من أزمات متشابهة. فمثلا لجأ الإمام الأشعري إلى أسلوب عرض آراء «فرق المعتزلة» في أيامه، وأظهر تعارضها وتفاوتها واختلافها وقدّم البدائل عنها. فالأشعري ابتكر أسلوب المقارنة والنقد بناء على منهج «الجرح والتعديل» الذي ابتكره الفقهاء لدراسة الأحاديث ومفاضلتها والتأكد من صحتها.

بعد الأشعري جاء الإمام الغزالي (أبوحامد) في نقد كتابات الفلاسفة، فهو انطلق من القواعد النظرية التي وضعها الأشعري وطورها باتجاه تفكيكها من الداخل. فالتفكيك كان وسيلة الغزالي في نقض أفكار الفلاسفة وتبيان تهافت مدارسهم وتعارضها. وأسهم منهج التفكيك (الغزالي) في اطلاق نهضة فكرية لعبت دورها لاحقا في إعادة إحياء علوم الدين.

بعد الغزالي جاء الإمام ابن تيمية الذي رفض منهج الأشعري في العرض والنقد ومنهج الغزالي في الدخول إلى النص وتفكيك أنساقه الأيديولوجية وكشف تعارضاته البنيوية - الذهنية. فابن تيمية لجأ إلى الأسلوب الأقصر وهو المنهج الهدمي (التقويضي) الذي أشار إليه تلميذه ابن القيم الجوزية حين أشاد بموسوعة ابن تيمية المعنونة بـ «درء تعارض العقل مع النقل».

المناهج الثلاثة (المقارنة والنقض، والتفكيك وأخيرا التقويض) تعتبر من الوسائل المبتكرة قديما لاستحداث قراءة نقدية جديدة للفكر العربي المعاصر. يضاف إليها منهج ابن خلدون المميز في تحليل أسباب العمران وصعوده وهبوطه بناء على مراقبة تاريخية لكل تطور العصبيات ونموها ونزوعها إلى السلطة واستقرارها وأخيرا بدء هبوطها واضمحلالها. فالمنهج العمراني من البداوة إلى الحضارة يعتبر أيضا إضافة نوعية على المنهج التاريخي - الاجتماعي المطلوب استحداثه. فابن خلدون تابع معظم السجالات الفكرية وذكرها في مقدمته، وغاب عنه ابن تيمية، إذ يبدو أن صاحب المقدمة لم يطّلع على كتاباته، على رغم أن الفارق الزمني ليس طويلا بينهما.

يمكن إضافة الكثير من المناهج النقدية التقليدية لدراسة الفكر العربي المعاصر وتفكيك آلياته. فهناك منهج الفقهاء (الجرح والتعديل) وهناك منهج الشاطبي (مقاصد الشريعة) والكثير من أدوات النقد استخدمها السلف في مراجعة الفكر العربي (الإسلامي) حين دخل في لحظات تأزم كما هو حاصل الآن.

إلا أن كل هذه المناهج العلمية لا تغني عن ضرورة البحث عن إضافات معاصرة لاحتواء الأزمة وتجاوزها. فهذه المناهج مفيدة في توضيح معالم الأزمة ولكنها ليست كافية للسيطرة على مداخل المشكلات التي ولّدت أزمة الفكر العربي (الإسلامي) المعاصر. فالمناهج المذكورة لاتزال حيّة وتمتلك روحية علمية يمكن استخدامها لإعادة القراءة النقدية ولكنها في الآن تحتاج إلى تطوير مفهومي حتى تتناسب مع التطورات المعاصرة وتحديدا تلك التي قلبت الموازين العالمية منذ مطلع القرن الخامس عشر. فالفقهاء والعلماء والقضاة وكل من اشتغل في حقول المعرفة والتاريخ لم يشهد تلك التحولات الكبرى وبالتالي فإن المناهج التي اعتمدوها كانت تعكس مدى التطور الذي عاصروه في أيامهم. وهذا يفرض على كل المشتغلين في حقول المعرفة والتاريخ البحث عن وسائل نقدية جديدة تمتلك إمكانات الرد على مجموع تلك التحولات وتفسيرها وفق معايير معاصرة لا تقطع مع الماضي بل تستفيد من تجاربه للانطلاق نحو تحليل وتفكيك وهدم (تفسير وتركيب) تلك المسلّمات التي عطلت إمكانات التفكير في أزمة الواقع العربي المعاصر.

قبل 500 سنة لم يكن العالم دخل مرحلة التدويل التاريخي للحضارات. فالحضارات في معظمها كانت تحمل في أطوارها ذاك الاستعداد العالمي للانتقال من مكان إلى آخر ومن حال متقدم إلى حال أكثر تقدما. وفي هذا المعنى كل الرسالات السماوية وتحديدا الإسلام والمسيحية تحمل صفات عالمية، فهي موجهة أساسا لكل الناس والعالم من دون تمييز في العرق واللون واللغة والقبيلة والجنس. كذلك هناك حضارات كبرى دمجت بين العمران والفكر وبين القوة والعقيدة. فمثلا فتوحات الاسكندر المقدوني ربطت بين الحروب العسكرية وعناصر الحضارة اليونانية التي تمثلت آنذاك في أرقى أشكالها الفلسفية وتحديدا أرسطو الذي يعتبر الاستاذ الروحي للاسكندر.

العالمية إذا والنزعة ا لإنسانية نحو العولمة ليست فلسفة أو حركة جديدة فهي قديمة قدم الإنسان... إلا انها في نسختها المعاصرة تدولت وتحولت من فكرة إلى وقائع ميدانية يشهد عليها التاريخ منذ الاكتشاف الجغرافي للأرض وربط الأجزاء المبعثرة حضاريا في شبكة تجارية بحرية (ملاحية) بين العالم وأوروبا ومن ثم بين أوروبا وأميركا وأخيرا بين أميركا والعالم.

هذا التعديل لم يشهده فقهاء وعلماء وقضاة الأمة، كذلك أدركهم الزمن في وقت كان العالم لاحقا يدخل مرحلة التدويل وهي الفترة التي قلبت موازين القوى وحولت الإسلام (العالم الإسلامي) من مركز إلى طرف ومن قوة جاذبة إلى كتلة مجذوبة وملحقة بالمركز الدولي الجديد (أوروبا أولا ثم أميركا).

التحول المذكور لابد من أخذه في الاعتبار حتى يكون مستوى النقد للفكر العربي المعاصر على سوية العالم في نسخته المدولة. فالفقهاء والأئمة في عصرهم سجلوا وكتبوا ونقدوا في فضاءات مختلفة غابت عنها تلك الطبعة الجديدة وهي دخول العالم عصر التدويل. فالتدويل هو السمة الأساسية التي قولبت علاقات العالم ونجحت عن طريق الغلبة في تدوير صيغ الحضارات وأعادت ترتيبها في أطر متباينة ومختلفة عن السابق. وهذا ما غفل عنه الفكر العربي المعاصر إذ استمر يقولب ويقلّب القضايا وفق تفسيرات قديمة وتقليدية في وقت دخل العالم فترة خطيرة من التحولات. ففي الوقت الذي كان العالم يعيش ويتطور في إطار تدويل العلاقات، استمر الفكر العربي المعاصر يقرأ التحولات (الفروقات بين أوروبا والعالم الإسلامي) وفق نزعة ذاتية ترى أن قوانين التقدم والتخلف تتحكم فيها عوامل داخلية مسقطا دور الخارج الذي بات يتحكم في الداخل ويحدد مساره وتطوره بعد أن دخل العالم عصر العولمة.

القراءة التصحيحية لأزمة الفكر العربي المعاصر صعبة لأن الخلل البنيوي يضرب جذور ذاك الفكر المتأزم الذي بات يعطل إمكانات التفكير والتجاوز. فالقراءة صعبة وهي بدورها بحاجة إلى تغيير حتى ينجح الفكر العربي في تصويب نظرته إلى عالم يتغير باستمرار ومن دون انقطاع. وان هذا التغيير في سياق تحولاته العالمية (التدويل) سينقل مركز ثقل الحضارة (الاقتصاد مثلا) من مكان إلى آخر بحكم صيرورة التحول ذاته وتطوره الذاتي (الكوني) من مستوياته الراهنة إلى حدود أعلى.

القراءة التصويبية تحتاج إلى إدخال الخارج (عناصر التدويل) في التحكم بمسار التطور وهذا يحتاج بدوره إلى منهجية إسلامية جديدة (معاصرة) تقرأ ماذا حصل في القرون الخمسة الأخيرة حتى تتصل الأفكار مع الماضي. فالاتصال مع الماضي وقراءة الحاضر يسهمان في تطوير منهج التفكير ويساعدان على إعادة نقد الفكر المعاصر وإخراجه من أزماته المحلية إلى عالم آخر يتعايش مع تحولات تاريخية شهدتها حضارات أسهمت في إنتاج عصرنا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 679 - الخميس 15 يوليو 2004م الموافق 27 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:55 م

      الفكر العربي المعاصر ومركب الازمات

      تحية خاصة للاستاذ وليد.
      المقال اعلاه يكشف بيضات كبيرة تشكل عمق ازمات الفكر العربي المعاصر برؤية تستنهض كل مقومات الامة الذهنية والتاريخية والواقعية ،الذاتية والموضوعية لتجاوز هذه البيضات او الازمات المركبة لهذ الفكر.وتكاد هذه الرؤية التي يطرحه وليد نويهض تتفق مع كثير من الرؤى داخل الفكر العربي المعاصر،وهي تستشرف المستقبل العربي المتعثر، فما ناضل من اجله هذا الفكر منذ مئة سنة تقريبا وطرح من اسئلة ما تزال عالقة. فيكون المدخل الاساس في المعالجة هو العمق المنهجي ،ثم العمق المفاهيمي لثقافة الامة

اقرأ ايضاً